Site icon IMLebanon

التغريبة السورية بين مركل والأسد

لن تُضاف حرب سورية العدمية إلى قائمة حروب التطهير العرقي في القرن الماضي، منذ تبادلت تركيا واليونان يونانييهما وأتراكهما في العشرينات إلى سلسلة تهجيرات السكان القسرية في الاتحاد السوفياتي في الأربعينات، وموجات النزوح الهائلة بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس إسرائيل عام ١٩٤٨ على أنقاض معظم فلسطين، وتبادل الهند وباكستان مسلميهما وهندوسييهما عام ١٩٤٩، إلى حروب يوغوسلافيا السابقة ورواندا في التسعينات.

لكن الحرب السورية-السورية بالتأكيد توحي أحياناً بأنها فعلاً حرب اجتثاث وإعادة توزيع للسكان يمارس فيها طرفا الصراع الأكثر وحشية، نظام الأسد و «داعش»، عمليات تطهير عرقي وديني في مناطق سيطرتهما أدت إلى نزوح ملايين السوريين داخل سورية وخارجها. وقد جاءت كلمة بشار الأسد في كلمته في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية يوم ٢٠ آب (أغسطس) الماضي التي قال فيها: «خسرنا خلال سنوات الحرب خيرة شبابنا، فضلاً عن تضرر البنية التحتية، إلا أننا كسبنا في المقابل مجتمعاً صحياً متجانساً»، لكي تؤكد الدافع العرقي- الطائفي لعمليات النظام في المناطق المتنازعة السيطرة عليها في سورية «المفيدة» وغير المفيدة أيضاً، والتي كانت على الغالب ذات أكثرية مسلمة سنية قروية وفقيرة. فالعاملان الديني والطبقي مترابطان في معظم المناطق السورية، ولا يخلو تماسك النظام وتقهقر الثورة السورية وتوزع الحروب الطائفية الصغيرة من عوامل طبقية واضحة.

ظاهرة فرض التجانس العرقي هذه بقوة السلاح، على انتشارها، مضادة للتاريخ وللاقتصاد. فالمجتمعات المعاصرة السائدة اقتصادياً هي في شكل عام مجتمعات مختلطة وهجينة تتلاقى فيها كل الديانات والعروق والأجناس، بخاصة في المدن الكوزموبوليتية مثل لندن ونيويورك وباريس ولوس أنجليس وبرلين. وهي قد تطورت بمجملها بتأثير الثورتين الصناعية والتكنولوجية- التمويلية من التجانس إلى الهجانة ومن التعصب العرقي أو الديني أو الوطني إلى نوع من اللامبالاة المنفتحة: إذا كنت مفيداً فمرحباً بك. حتى المدن الآسيوية التي تميزت بتجانس عرقي طاغ حتى وقت قريب، مثل طوكيو وشنغهاي وسيول وبانكوك وحتى دبي، أصبحت اليوم هي الأخرى مدناً كوزموبوليتية. والعودة إلى مدن متجانسة عرقياً ودينياً، كما يبدو من وجهة سير الأمور في بعض مدن سورية والعراق، معوق للاقتصاد المحلي والمعولم أيضاً. فالأفكار الجديدة وطرز الإنتاج التكنولوجية المعاصرة وضرورة حركة الأفراد ورؤوس الأموال والمواد والمعلومات تحتم على مدن العصر الانفتاح والليونة في التعامل مع كل أصناف البشر، وتقبل الجديد والغريب واللامألوف والتأقلم معه وحتى استيعابه. والتجانس البشري عدو ذلك تعريفاً وتطبيقاً. فهو يكبح التجريب والمغامرة والمشاركة والتعاون ويعزز السكون والتراتبية الاجتماعية والتوكل على ما هو قائم ومضمون.

لكننا إذا عدنا لتصريح بشار الأسد وجدنا فيه أكثر من نظرة ضيقة ورجعية بالمعنى الحقيقي للكلمة، نظرة لاتاريخية ولااقتصادية للدول والمجتمعات، بل هي، وهذا هو الأدهى، نظرة لاأخلاقية. فصنع المجتمعات المتجانسة، كما يحاول نظام الأسد أن يفعل وكما فشل «داعش» على ما يبدو في أن يفعل، عملية تستلزم قدراً كبيراً من العنف والاستهتار والتمييز ونفي الإنسانية. واعتبار التجانس علامة صحة لم يكن يوماً بعيداً من الفكر الاستعلائي أو الاستئثاري العنصري، مثل الفاشية أو النازية أو النازية الجديدة، بخاصة في نسختها الأميركية المعادية للسود، أو الصهيونية المتعصبة، أو حتى «الداعشية» أو الأسدية المتعصبة، وهي كلها حركات ترى في التجانس العرقي دلالات تمايز إلهي أو قدري صنعه التاريخ ولا يمكن للبشر أن يهدموه أو يفكوا لحمته.

اللاأخلاقية هذه منتظرة دوماً من الرابحين في الحروب الأهلية على أشلاء أوطانهم وشعوبهم، بخاصة إذا ما اعتبرنا كيفية السعي لتحقيق هذا المجتمع المتجانس المفترض في سورية بالقصف والتجويع والاعتقال والتعذيب وإعادة التوطين التي ازدادت وتيرتها مؤخراً. هذه الخساسة تبرز إلى السطح وبقوة إذا ما قارناها بما يفعله أولئك الذين لُفظوا من وطنهم لتحقيق هذا التجانس أو ممن أمّنوا لمن لُفظوا مأوى يؤويهم ومستقبلاً يتطلعون إليه. فالتغريبة السورية الكبرى لصيف ٢٠١٦ مثلاً أدخلت حوالى مليون سوري إلى ألمانيا، لن يعود منهم إلا أقل القليل في حال وضعت الحرب أوزارها في بلادهم. وهؤلاء، على الغالب والأعم، يلاقون ترحيباً رسمياً ومؤسساتياً لم يعهدوه في سورية، وترحيباً أقل حرارة من الناس العاديين بسبب اختلاف العادات والممارسات بين المجموعتين. ولكن الموقف الرسمي ما زال واضحاً وصريحاً: اللاجئون القانونيون لهم كل الحقوق في بلد لجوئهم الذي سيصبح يوماً ما بلد انتمائهم، أو على الأقل بلد انتماء أولادهم الذين سيكبرون في ألمانيا. استيعاب مليون سوري في المجتمع الألماني عملية مكلفة وجبارة لوجيستياً واقتصادياً وأخلاقياً. وهي كانت ولا تزال تلقى التوجيه والدعم المعنوي والسياسي من المستشارة الألمانية أنغيلا مركل لأسباب عدة، ليست كلها اقتصادية أو استراتيجية، بل إنها مؤطرة في شكل واضح بإطار أخلاقي وإنساني معاصر: إطار يساعد المحتاجين في أزماتهم وينحو إلى تقبل فكرة أن المجتمعات المعاصرة هي بالضرورة مجتمعات مختلطة وهجينة، رابطة الانتماء التي تجمعها رابطة مكتسبة. هذا هو مبدأ المواطنة الذي يمكن تعلمه واستيعابه من جانب الكل. وما أبعد هذه الفكرة مما تحويه عبارة بشار الأسد من تخوف وتقوقع وأصولية وتمييز قديم الجذور.

ولكن، هل يتفاعل اللاجئون السوريون مع هذه الفكرة؟ الكثير منهم يفعل. والذين ما زالوا يعيشون كابوس الماضي المخابراتي والشمولي الذي قمعهم وفرض عليهم المذلة والمسكنة والانتهازية يتحررون منه رويداً رويداً ويتعلمون أسس انتمائهم الجديد. وهم، أو أولادهم على أقل تقدير، سينضمون للمجتمع الحر والمنفتح الذي يعيشون بين ظهرانيه، وسيساهمون في نشاطه وازدهاره كما راهنت مركل عندما قبلتهم في البداية وكما فشل بشار الأسد في الرهان على مواطنيه عندما ثاروا على تعسف نظامه بداية ٢٠١١.

هنا تحضرني قصة صيدلي سوري من دير الزور قابلته ابنة أصدقاء لي تطوعت لمساعدة اللاجئين السوريين في جزيرة ليسبوس اليونانية، أول مرافئ الهجرة. هذا الرجل خسر حياته كلها في أتون الصراع الدائر في مدينته. كانت لديه صيدلية قصفها النظام في واحدة من غاراته وقتل ابنه واعتقله لمدة بتهمة ملفقة. وعندما أطلق سراحه، أعاد إنشاء صيدليته ثانيةً في دير الزور. ولكن النظام قصف المنطقة ودمر صيدليته للمرة الثانية. ثم أسره «داعش» في من أسر من أبناء تلك المدينة المأسورة، وعذبه عذاباً استحى أن يخبر محدثته بتفاصيله. فركب موجة الهجرة كغيره، مضحياً بكل شيء في سبيل القدوم إلى بلد يحترم إنسانيته. وعندما سألته محدثته عما سيفعله عندما يصل إلى ألمانيا، أجاب: سأؤسس صيدلية.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.