منذ مؤتمر بروكسل حول سوريا، الذي انعقد في مطلع أيار الفائت، يظهر إصرار لدى المسؤولين اللبنانيين على إمرار «كلمة سر» مشتركة، وبدرجة حزم غير مسبوقة: لم نعد نتحمّل أعباء النزوح السوري والفلسطيني، وإذا لم نحصل على التعويض المناسب فلكل حادث حديث!
خابت توقعات لبنان من الحصة التي تم تخصيصها للنازحين السوريين، في مؤتمر بروكسل، إذ لم يتجاوز المبلغ 5 مليارات دولار تشمل هؤلاء النازحين ككل، في داخل سوريا وخارجها، والبلدان التي تستضيفهم، فيما لبنان يطالب بـ3,2 مليارات لهذه السنة.
وكان لافتاً ما أعلنه منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزف بوريل عن أن الأولوية في تقديم الدعم ستمنح للنازحين السوريين في المناطق المحاذية للحدود مع تركيا. وهذا يعني إهمالاً لأوضاع النازحين في دول النزوح الأخرى، ولحكومات هذه الدول، ومنها لبنان.
الواضح أنّ لبنان رفع السقف، مطالباً هذه المرة بإصرار أكبر على تقديم الدعم إلى النازحين في مناطق عودتهم في سوريا لا في مناطق نزوحهم في لبنان. كما عبّر عن رفضه إقامة مخيمات لهم على الحدود اللبنانية – السورية. ويعتبر الجانب اللبناني أنّ المناخات السياسية والأمنية والاقتصادية في سوريا باتت تسمح بعودة غالبية النازحين، لكن رغبة الكثيرين منهم في الاستفادة من المساعدات تشكّل حافزاً لبقائهم في لبنان.
ومنذ اندلاع الحرب في سوريا، لم يحصل لبنان الا على ما يقارب الـ9 مليارات دولار تحت عنوان النازحين السوريين، أي إن المعدل السنوي لم يصل إلى المليار، فيما تقدر الأكلاف الحقيقية لمشكلة النزوح السوري في لبنان بنحو 3 مليارات دولار سنوياً، وفق ما أعلن وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، استناداً إلى تقديرات أجرَتها بعض الجهات الدولية. أي إن ما تكبّده لبنان نتيجة أزمة النزوح السوري على مدى 11 عاماً قاربَ 33 مليار دولار.
على هذا الأساس، يتصرف لبنان اليوم من منطلق أنّ البدل العادل الذي يستحقه عن الفترة السابقة كلها يراوح ما بين 20 مليار دولار و25 ملياراً، علما أنّ مسألة النزوح كانت هي النقطة التي فاضَ الكوب بها، وأدت إلى انفجار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط فيها، كما قال الوزير وليد فياض في القاهرة أخيراً.
وما يستثير الحكومة اللبنانية هو أن الجهات التي تدعم النازحين في لبنان غالباً ما تقدم مساعداتها إليهم مباشرة أو من خلال أطراف ثالثة، ومن دون المرور بالسلطة اللبنانية.
وينظر كثير من المسؤولين إلى هذا التصرف في اعتباره جزءاً من الحصار السياسي والاقتصادي الذي يمارسه بعض القوى الدولية. وتحت شعار تراجع الثقة في السلطات اللبنانية، تدخل الأموال عبر أقنية أخرى، فلا يستفيد منها لبنان الذي يعاني أسوأ أزماته. وثمة امتعاض لدى المسؤولين من هذا السلوك الذي لا يتم اعتماده في بلدان النزوح الأخرى، بل يقتصر على لبنان من دون سواه.
وللتذكير، غالباً ما يلجأ الأتراك إلى التلويح بإطلاق قوافل النزوح براً وبحراً إلى أوروبا ما لم يحصلوا على الدعم المالي المطلوب. وحتى اليوم، نجحت هذه السياسة في تحقيق الغايات منها. وكذلك، يحصل الأردن من خلال حكومته على دعم مالي دولي في مسألة النازحين السوريين.
واضح أنّ لبنان قرّر أن «ينتفض» في مسألة الدعم الدولي للنازحين السوريين الموجودين على أرضه، والذين يقارب عددهم المليون ونصف مليون، وإلى جانبهم أقل بقليل من نصف مليون نازح فلسطيني، بعدما بلغت البنى التحتية حال الاهتراء الشديد ولم تعد الموارد كافية حتى للبنانيين. وأعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، في شكل صريح، أن لبنان سيضطر إلى التشدد في اتخاذ الاجراءات التي ينص عليها القانون اللبناني لتوفير عودة النازحين، والتخفيف من حجم هذا النزوح.
هل يهدف لبنان برَفع هذا السقف للحصول على مبالغ من المال يحتاج إليها في شكل طارئ لتتمكن الدولة من الاستمرار في الحد الأدنى، أم هو يستعد لمرحلة ستفتح فيها أبواب الاتصال مع دمشق حول كثير من المسائل الاقتصادية والاجتماعية العالقة؟ وفي أي حال، إلى أي حد يستطيع لبنان استخدام أسلوب التشدد في مخاطبة أوروبا والمجتمع الدولي في ملف النازحين؟
ثمّة عقبات أمام الحكومة اللبنانية يمكن أن تضعف «انتفاضتها» في مسألة النازحين، وأبرزها:
١ – صعوبة اتخاذ إجراءات ملموسة تعيد النازحين السوريين إلى بلادهم، لأن هذا الأمر يتطلب التنسيق المباشر والحثيث مع الحكومة السورية. وحتى اليوم، ليس هناك أي توجه لبناني واضح للدخول في هذه المسألة.
٢ – يتحدث المسؤولون اللبنانيون عن التباس في تصنيف النازح السوري، في كثير من الحالات. فهناك النازح، وهناك العامل، وهناك المقيم. وغالباً ما يقع التباس في التصنيف. ويقول هؤلاء إن كثيراً من السوريين يدخلون في استمرار إلى سوريا ويقيمون فيها أحيانا، ثم يعودون إلى لبنان للإفادة من الدعم المخصّص للنازحين. وضبط هذه الحالات يستلزم إجراءات وجهودا استثنائية من الجانب اللبناني لمنع حالات الالتباس.
٣ – سيكون متعذراً إقناع القوى الدولية المانحة بالتعاطي مباشرة مع السلطات اللبنانية وتسليمها الأموال المخصصة للنازحين السوريين، ما دامت هذه القوى تحجب دعمها عن الحكومة اللبنانية وتفرض الحصار عليها، وتشترط عليها عقد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإجراء الإصلاحات أولاً.
٤ – من سوء أقدار الملف السوري اندلاع الحرب في أوكرانيا. وقد حذّر مسؤولون في الأمم المتحدة من أن تصبح سوريا أزمة منسية بسبب انشغال العالم بأوكرانيا. ولذلك جاء الدعم الذي قدمه مؤتمر بروكسل إلى النازحين السوريين فاتراً هذه المرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد النازحين الأوكرانيين قارَب 14 مليونا، أي نحو ثلث السكان، نصفهم تقريبا نزحوا إلى مناطق داخل أوكرانيا، فيما النصف الآخر عبر الحدود إلى البر الأوروبي، ولا سيما بولونيا (3 ملايين ونصف مليون) ورومانيا ومولدافيا (نحو مليون). وإذا استمرت الحرب أشهرا إضافية فستغرق أوروبا في أزمة النازحين الأوكرانيين، في لحظة حَرجة عسكريا واقتصاديا وسياسيا، بحيث لا تكون القارة العجوز قادرة على التفكير بأزمات أخرى، بما في ذلك سوريا.
المشكلة أن الحكومة اللبنانية تحتاج بنحو طارئ إلى الدعم الخارجي لمواجهة الانهيار المالي، ولو تحت عنوان النازحين. ولكن، ثمة من يخشى أن يبقى أي دعم خارجي، من أي نوع كان، رهناً بالشروط السياسية في الدرجة الأولى. فلبنان الذي يفكر في المطالبة بأكثر من 20 مليار دولار للنازحين، ويعمل لتحريك 11 مليارا تم إقرارها في مؤتمر «سيدر»، والحصول على بضعة مليارات من صندوق النقد الدولي، لا يبدو قادراً على تحصيل شيء عملياً في المدى المنظور.
وعلى الأرجح، سيتخبّط لبنان في ملف تمويل النازحين السوريين كما في مسألة عودتهم، إلى أن تنضج التسويات السياسية المناسبة، بدءاً من سوريا.