«الكلّ إلى الرقة». يعود الميدان السوري رويداً رويداً إلى ما قبل اتفاق الهدنة، بعد إطلاق الجيش السوري معركة جديدة بدعم روسي نحو «عاصمة الخلافة»، مقابل رغبة واشنطن في تحريرها على أيدي حلفائها. المعركة التي توضح عودة موسكو بقوّة إلى ساحات الميدان، جاءت كـ«حل وسط» بينها وبين دمشق و«محورها»، بعد رفض الأخيرة الشروع في عملية باتجاه دير الزور وتفضيلها لحلب ساحة قتال أساسية. مكاسب عدة سيجنيها الجانب السوري في حال نجاح خطته في الوصول بداية إلى مدينة الطبقة، فهو أولاً يرسل للأميركيين إشارة واضحة بأنه لن يترك وسط البلاد وشمالها لحلفائهم، وأنّ «جائزة» إسقاط رمز «داعش» السوريّ لن تكون من نصيب المحور الغربي
منذ أيام تُرابط حشود من الجيش السوري والقوات الرديفة في إثريا في ريف حماة، تحضيراً لإطلاق معركة نحو الرقة.
قرار هذه العملية ليس وليد أمس، وكان قريب الحدوث في شباط الماضي عندما أطلق الجيش عمليات من إثريا باتجاه ريف الطبقة.
لكن الأمور اختلفت منذ دخول الهدنة حيّز التنفيذ في نهاية شهر شباط الماضي.
حينها كانت مدينة تدمر تُعدّ المعركة المركزية بالنسبة للجانب الروسي. جرى تحرير «لؤلؤة البادية»، لتعود بعدها أسئلة «ماذا بعد»، ويظهر الاختلاف حول الأولويات.
وفي معلومات «الأخبار»، أرادت موسكو استكمال العملية نحو مدينة دير الزور، لكن دمشق والحليف الإيراني فضّلا التريث نظراً إلى عدد الجنود الكبير الذي تتطلّبه المعركة، ولأولوية المعركة في حلب في الدرجة الأولى.
وجهات النظر المختلفة أرخت نوعاً من التشتت العملياتي في حلب. معسكر دمشق ــ طهران ــ حزب الله اضطر إلى أن يقف مدافعاً عن وجوده في المناطق المحررة حديثاً في ريف حلب الجنوبي، ليخسر بلدة العيس وتلّتها، ثم خان طومان. بالنتيجة، كان هذا المعسكر يستطيع أن يبادر في الحد الأقصى إلى محاولة استرجاع ما خسر بالمفرّق من دون أي معركة أكبر، يثبّت عبرها إنجازاته ويفتح آفاق ميدانية لمناطق أخرى تلامس ريف ادلب. السياسة كانت أقوى من الميدان، والحسابات تبدأ عند الثنائي الأميركي ـــ الروسي ولا تنتهي في أروقة «جنيف» وأنقرة والرياض.
اليوم، يحصي الروسي بعض خسائره. محادثات جنيف مفرملة، وهو يرى طريقة إدارة الرياض لـ«الهيئة العليا للمفاوضات» عبر التسويف والمماطلة، فيما شحذت واشنطن همم «قوات سوريا الديمقراطية» وخلفها حليفتها «وحدات حماية الشعب» الكردية، لتعود وتحصد النتائج في ريفي حلب والرقة، بعد التقدم الكبير في ريف الحسكة الجنوبي والغربي.
موسكو، أمام هذه الحال، تعود إلى الميدان من باب قتال «داعش»، حيث «الشرعية الدولية» لمحاربة التنظيم الارهابي، بعيداً عن تعقيدات الميدان الحلبي المتداخل بين «جبهة النصرة» والتنظيمات المدعومة أميركياً وتركياً وسعودياً. هو السباق مجدداً إلى الرقة، عاصمة «الدولة الاسلامية» في سوريا.
والهدف، حسب المعلومات، لا يتوخى الوصول إلى المدينة في الأسابيع المقبلة، بل بالحد الأدنى إلى مدينة الطبقة وبحيرة الأسد، حيث يضع الجيش السوري قَدَماً في المنطقة من دون تركها لحلفاء الأميركيين بالمطلق.
ما يجري هو اختبار جديد للتصعيد في سوريا، وخلفه إعادة كسب أوراق في الميدان لاستخدامها في السياسة بعدما أحرقت جولة «جنيف» الأخيرة حالة الرجحان لصالح الدولة السورية قبل اتفاق الهدنة الشهير. وإن كانت المكاسب في وجه «داعش» لا تُستثمر في الأساس على الطاولة الروسية ـــ الأميركية، لكون تركيا والرياض تتّكئان على كرسي «النصرة» ـــ التنظيمات الاسلامية ـــ «الجيش الحر». لكن رغم أنّ المعركة الحالية تجري بعيداً عن ملعب المجموعات الحليفة للدولتين الاقليميتين، فإن نارها ستصل إليهم، إن كان بالنتيجة الميدانية غير المباشرة أو بالتفرّغ اللاحق لقتال هؤلاء في أرياف حلب وإدلب. كذلك لم تُقفل ساحة حلب، فالدولة السورية وحلفاؤها يستعدون لاستئناف معركة تطويق المدينة وهم لا ينتظرون، في المرحلة الحالية، سوى «عدم ممانعة روسية» في ذلك، حسب مصادر عليمة في الميدان السوري.
وصباح أمس، باغت الجيش السوري والقوات الرديفة («صقور الصحراء»، و«مغاوير البحر»، و«نسور الزوبعة») مسلحي «داعش»، بهجوم عنيف انطلاقاً من بلدة إثريا في ريف حماة الشرقي، بهدف الوصول إلى مدينة الطبقة في ريف الرقة الجنوبي الغربي (تبعد 80 كيلومتراً عن إثريا)، بغطاء من الطائرات الروسية. العملية التي سبقها إعداد مسبق منذ أيام، تستفيد من حالة الضغط الهجومي الذي يعاني منه «داعش» في أرياف الرقة وحلب وتدمر، لإحداث خرق باتجاه معقله الرئيسي في محافظة الرقة، وإعادة وجود الدولة السورية إليها، ولو في مركز مدينة الطبقة، ثانية أكبر مدن المحافظة. الهجمات التي تشارك فيها قوات من نخبة الجيش السوري، والقوات المساندة له، والتي تمتلك الخبرة في معارك ذات طبيعية جغرافية صعبة (معارك ريف اللاذقية الشمالي نموذجاً)، تمكنت من تحقيق تقدّم لقرابة 10 كلم، وسيطرت على النقطة الخامسة والسادسة على محور إثريا ـــ الطبقة، وعلى مركز قيادة «داعش» في جبال «أبو زين 2»، ونقاط «أبو زين 3» و«أبو زين 4» و«أبو زين 5» و«أبو زين 6»، وتتابع عملياتها باتجاه مفترق منطقة الزكية، وحقلي الحباري والرصافة ومزرعة العجراوي، بعد تمهيد جوي كثيف. ويحاول الجيش من خلال هذه العملية أن يسابق «قوات سوريا الديمقراطية» في الوصول إلى الطبقة، بعد أن أعلنت «قسد»، في وقت سابق، إطلاق محور رابع لعملياتها العسكرية في ريف الرقة الشمالي، يهدف إلى الوصول لمدينة الطبقة. ورجّح مصدر ميداني أن «الضغط على داعش في ريفي الرقة وحلب، يشكّل مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، والهدف منه إنهاء وجود التنظيم في معاقله الرئيسية في سوريا».
بدوره أكد مصدر عسكري آخر لـ«الأخبار» أنّ «عملية الطبقة ليست جديدة، وهي استكمال لعمل عسكري مخطط سابقاً، واليوم توافرت الظروف العسكرية واللوجستية لاستكمالها». وأضاف المصدر أنّ «الجيش يستخدم أسلحة حديثة ومتطورة، مع غطاء جوي كثيف، يُثمر عادة في مناطق ذات طابع صحراوي، ما سيؤدي إلى تحقيق تقدم سريع في المنطقة». وكشف المصدر أنّ «الهدف القريب للعملية هو الوصول إلى مدينة الطبقة، والهدف البعيد هو الوصول إلى مدينة الرقة (40 كيلومتراً شمال شرق الطبقة)، وإعادة سلطة الدولة السورية إليها». وتُمكّن السيطرة على الطبقة الجيش من تأمين ريف حماة الشرقي، وقطع طرق إمداد «داعش» من الرقة باتجاه ريفي حلب الشرقي والجنوبي، وبين الرقة وريف دير الزور من جهة أخرى، وهو أمر سيسهّل عملياته العسكرية في تلك المحاور، إضافة إلى أهمية اقتصادية تكمن في استعادة السيطرة على سد الفرات، أكبر السدود في سوريا، تضاف إليها استعادة قلعة جعبر التي تعتبر من أهم القلاع الأثرية التاريخية في المنطقة.