لا يكترث اللبنانيون بنسبة ولاداتهم، بقدر ما يرصدون زيادة الولادات لدى النازحين السوريين. ورغم عدم وجود أرقام رسمية، يقارب البعض التكاثر السوري بديموغرافية عنصرية، أو استفادة استثمارية من الدول المانحة، فيما يجد فيه آخرون الوجه الأكثر قتامة للنزوح. أزمات المعيشة البيئية والصحية والمادية، لا تقلّ خطورة عن أزمات الجهل والعنف الأسري والتسرّب المدرسي. وما بين تلك الأزمات، تصبح الأم وطفلها، أوّل الضحايا
تجاور قناة ريّ القاسمية معظم تجمّعات النازحين السوريين في العاقبية، التابعة لبلدة البيسارية (قضاء صيدا). في أحدها، استحدثت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين سياجاً من الشباك يفصل بين واجهة أحد التجمّعات وبين القناة، لحماية سكان التجمّع من الوقوع فيها. هذا الإجراء الحمائي اتُّخذ بداية عام 2019، عندما فاضت القناة خلال إحدى العواصف وجرفت شقيقين يقع منزلهما بجوارها. اليوم، مُزّق طرف الشباك وفُتحت كوّة فيه، تتدلى في وسطها أرجوحة من قماش، تناوب عليها أطفال كانوا يطيرون مع الهواء بين باحة التجمّع وضفة القناة.
قبالتهم، افترشت نسوة الأرض يجهّزن الطعام. ما إن وصلنا إليهن حتى تحلق من حولنا العشرات. «ابتعدوا عنها عشان العدوى»، صرخت إحداهنّ بالأطفال الذين التفوا حولنا. هي لا تخشى عليهم من العدوى، فقد تُركوا على سجيتهم. بعضهم حفاة القدمين، وآخرون يرتدون ثياباً خفيفة رغم الطقس البارد، وغالبيتهم يحكّون جلودهم وشعورهم. مقابل حركاتهم العفوية، تسارع أمهاتهم لصفعهم بقسوة في محاولة لضبطهم. لا حيلة للأطفال من الهروب من التعنيف في التجمّع الضيق المسيّج. حتى عندما يكبرون قليلاً لا يخرجون من هنا. فقد بدت الباحة كأنها ملعب مدرسة أطفال. معظمهم لا يذهبون إلى المدرسة؟ «لا أماكن في المدارس» برّرت إحدى الأمهات.
رزقة «الأمم»
لم تترك نسوة التجمّع فرصة لطرح الأسئلة. أسئلتهن لا تنتهي بعد تبلغهن بقرار «الأمم» (تقصد المفوضية) خفض المساعدات التي تقدّمها للنارحين. شكون من الغلاء، ومن ظروف المعيشة القاسية التي ستتضاعف بعد القرار. استعرضن لائحة طويلة من الأضرار الناجمة عن قطع المساهمة الغذائية والمالية لعدد من العائلات، أو حصر سقف الأفراد المستفيدين منها بخمسة فقط. أبرز النتائج المتوقعة، تراجع عدد الولادات.
«الولد بيجي وبتجي رزقة الأمم معه». معادلة تبنّتها السيدة التي شارفت على بلوغ الخمسين من عمرها، على غرار غالبية أقاربها وجيرانها. آخر الأولاد الذين أنجبتهم في سوريا بلغ منتصف العشرينيات من عمره. مع ذلك أنجبت طفلاً بعد نزوحها، أصبح عمره الآن تسع سنوات. تنتمي السيدة إلى الفئة الغالبة من السوريين الذين لم يؤثر شتاتهم على معدّلات إنجابهم. «كانت مسألة ثقافة وعادات قبل النزوح. أما بعده، فقد أضيفت إليها، تقديمات المنظمات الدولية التي شجّعت على الإنجاب لدى البعض. «الأمم» تخصّص لكلّ فرد في العائلة مساعدة مالية وحصة غذائية، فضلاً عن تأمين مستلزمات الطفل. وقبل ذلك، تغطي تكاليف الطبابة والولادة والاستشفاء» لفتت السيدة. هذه «المغريات» كانت كافية لأزواج التجمّع لتكوين عائلات كبيرة وصل عدد أفراد كلّ منها إلى أكثر من عشرة.
«جبتن عالـ1500»
منذ ستة أشهر، انتقلت وفاء (الاسم مستعار) للعيش في التجمّع. ضاقت الخيمة على أطفالها الستة، فاستأجر زوجها منزلاً أكبر. تدعونا إلى «المخزن»، أي منزلها. قاعة طويلة بعرض ضيق من دون نوافذ، شيّدت في الأساس لتكون مستودعاً. قسمتها وفاء بستائر تفصل بين غرفة المنامة، وزاوية المطبخ، والمرحاض، وغرفة الاستقبال. برغم كبر عدد أفراد أسرتها، بدا المنزل فارغاً باستثناء زاوية صغيرة، وضبّت فيها الأثاث. وفي الزاوية المعاكسة للباب، ألقت على فرشة إسفنج صغيرة، أصغر أطفالها الذي يبلغ عمره ستة أشهر. «منذ أسبوع، فرغت علبة الحليب، ومنذ ثلاثة أيام فرغ كيس الحفاضات. سعاله يشق القلب ولا قدرة لي على الذهاب إلى الطبيب أو شراء دواء له» تشكو بحسرة. أما أكبر أطفالها، ذات السبع سنوات، فلم تلتحق بالمدرسة بعد.
وسط شكواها من عجزها عن تأمين حاجات أطفالها، تستغرب وفاء السؤال عن كثرة الإنجاب. «كلّهم جبتن عالألف وخمسة (تقصد سعر الدولار). اثنان فقط جبتن عالغلا». لو لم تخفض «الأمم» مساعداتها، لما كان شيء يمنع وفاء (25 عاماً) من إنجاب المزيد. هي نفسها تزوجت في عمر الثلاثة عشر عاماً. بعد فترة وجيزة، حملت بطفلتها الأولى. وفي غضون 12 عاماً أنجبت الستة.
«منع الحمل» لا يمنعه
جارتها نهى (اسم مستعار) تدعو ربّها بأن تجهض جنينها. الأم ذات الثمانية والعشرين عاماً، لديها أربعة أطفال. بعد الأزمة الاقتصادية والغلاء الفاحش، اتخذ زوجها قراراً بالاكتفاء بالأربعة. «مش عم يلحق». وافق على تناولها حبوباً لمنع الحمل وزّعها أحد المراكز الطبية المتعاقدة مع المفوضية. لكنها حملت. لا تعرف نهى كم مرّ على حملها. «ربما ثلاثة أشهر». تستطرد قائلة: «لم أذهب بعد إلى الطبيبة ولن أذهب. ثمن معاينتها هو 200 ألف ليرة. هذا عدا الأدوية التي ستصفها لي». تعيش وداد النقيض. تشكو بأن «اللولب الذي وضعته قبل خمس سنوات، لا يزال يمنعني من الإنجاب حتى بعدما أزلته». تريد وداد بنتاً بعد صبيّين اثنين.
لا تملك نسوة المخيم وحدهن قرار الإنجاب. «زوجي بدو هيك» العبارة المشتركة بينهن، التي لا تكون رمياً للمسؤولية بقدر ما تكون توصيفاً حرفياً لكونهن مفعولاً بهن. برغم زواجها في سن مبكرة، لم يُسمح لوفاء بالتفكير بتأخير الإنجاب. «إذا تأخرت بالحمل شهراً واحداً، يبدأ المحيط بالضغط عليّ وعلى زوجي. يوهمونه بأن لديّ مشاكل صحية أو عقيمة، أو يعايرونه بأنه مش زلمي».
لو لم تخفض مفوّضية الأمم المتحدة مساعداتها لما كان شيء يمنع وفاء من إنجاب المزيد
بين وفاء ونهى ووداد، وقفت فتاة لا يتجاوز عمرها الأحد عشر عاماً، تسترق السمع إلى أحاديثهن. قالت نهى إن «أهلها سيزوّجونها عندما يأتي العريس. وهكذا تصبح أماً في عمر الـ12 أو 13 عاماً». صُدمت الفتاة وصرخت لا أريد، حتى كادت تبكي. «أريد أن أتعلّم في المدرسة» قالت وهي تخفي حزنها بيدها الملفوفة التي كسرتها عندما أرسلها والدها للعمل في قطاف الزيتون.
«المفوّضية» مستمرة في دعم الصحة
تؤكد مفوضية الأمم المتحدة للاجئين بأن تقديماتها الصحية لن تتأثر بقرار تخفيض المساعدات. وفي أجوبتها على أسئلة «الأخبار»، تقول المفوضية إنها «تدير برنامج رعاية صحية لدعم رسوم المستشفى، وتغطية جزء كبير من تكلفة اللاجئين المحتاجين إلى رعاية التوليد والتدخلات العاجلة المنقذة للحياة في المستشفيات». وتلفت إلى أنها «متعاقدة مع 32 مستشفى في المناطق، وتدعم مع شركائها من المنظمات 170 مركزاً للرعاية الصحية الأولية في جميع أنحاء البلاد لتقديم خدمات الرعاية الصحية العامة، والتطعيمات، ورعاية الحوامل، وتنظيم الأسرة، ورعاية الأمراض المزمنة غير المعدية. بالإضافة إلى ذلك تدعم المفوضية تسليم خدمات الصحة النفسية النادرة والمحدودة في لبنان».
ما هو عدد الولادات؟
لا يمكن حسم عدد ولادات النازحين السوريين، إذ إن عدداً كبيراً منهم غير مسجّلين في لوائح المفوّضية أو لا يحملون بطاقات لاجئين. فيما تلد الكثير من النساء في المنازل، برغم مخاطر عدم الحصول على وثيقة ولادة للطفل. الفوضى المتركّزة ولا سيّما في التجمّعات النائية، تنتج عشوائية في إحصاء الولادات وتأمين حقوق الأطفال وحاجاتهم.
زيارة لقسم الولادات في «مستشفى الراعي» في الغازية، أحد المستشفيات المتعاقدة مع مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تتيح ملاحظة عدد من النازحات السوريات اللواتي يحملن أطفالهن الحديثي الولادة، يركبن على الدراجات النارية خلف أزواجهنّ أو أقاربهنّ، ويسرن مع أطفالهنّ في رحلتهم الأولى إلى المنزل: الخيمة أو الكاراج. لا مدعاة للشك بأن ولادات النساء السوريات تزيد أضعافاً عن ولادات النساء اللبنانيات. لكن ماذا عن الرقم الرسمي؟ ترفض إدارة المستشفى تزويدنا برقم الولادات المسجّلة لديها، التزاماً بالعقد المبرم مع المفوّضية. الأخيرة تحيلنا إلى وزارة الصحة اللبنانية «التي وحدها تملك الأرقام الرسمية لكلّ الولادات». علماً أن الوزارة بدورها أحالتنا إلى المفوّضية. «الأخبار» حصلت على رقم الولادات الذي سُجّل العام الماضي من مصدر غير رسمي في الوزارة، وبلغ 38 ألفاً و650.
على صعيد الأرقام الرسمية للنازحين، فقد وردت في دراسة «واقع البيئة في لبنان والتوقعات المستقبلية»، التي نفّذها كل من «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» بالتعاون مع وزارة البيئة واليونيسف والمفوّضية السامية لشؤون اللاجئين (صادرة عام 2021)، أن عدد سكان لبنان ارتفع من نحو 5 ملايين و200 ألف نسمة عام 2011، إلى 6 ملايين و800 ألف عام 2018. وارتفعت الكثافة السكانية في الكيلومتر الواحد من 508 أشخاص عام 2011 إلى 669 شخصاً عام 2018. وفي عام 2017، خلصت إحصاءات الحكومة إلى أن النازحين يشكلون 30% من السكان وهو أعلى معدّل في العالم.
من ملف : العائلة اللبنانية تتقلّص