لا تزال سوريا عالقة في مرحلة المخاض الانتقالي بعد سقوط نظام الأسد، ولم تدخل بعد طور الاستقرار السياسي والأمني المنشود. فالسنوات الطويلة من حكم آل الأسد تميّزت بالقمع والقتل والتنكيل وزرع الأحقاد والكراهية، أورثت المجتمع انقسامات وجراحاً لم تندمل بعد، مما يجعل مسار الانتقال محفوفاً بالتحديات والعقبات.
تحمل المرحلة الانتقالية تحديين محوريين للسلطة الجديدة. أولهما، صياغة دستور جامع وتشكيل سلطة تمثيلية حقيقية تضمن مشاركة فعلية لجميع المكوّنات السورية. ثانيهما، فرض سيادة الدولة على كامل الأراضي السورية، وهو تحدّ لا ينفصل عن الأول، إذ إنّ أي تهميش أو إقصاء لأي مكوّن قد يضعف الدولة ويؤسّس لنزاعات داخلية تهدّد استقرارها.
مؤخراً، واجهت المرحلة الانتقالية عقبة خطيرة، إذ إنّ التوترات الدامية التي شهدها الساحل السوري شكّلت امتحاناً كبيراً للسلطة الوليدة.
فقد قامت مجموعة من فلول النظام مِن المطلوبين للعدالة بسبب بطشهم وارتكابهم مجازر بحق السوريين، بتشكيل عصابات ونصب كمائن وتنفيذ عمليات عسكرية ضد القوّات النظاميّة، وعملت على تأجيج التوترات المذهبية، مدّعية الدفاع عن الطائفة العلوية، في محاولة للاحتماء بها للهروب من الملاحقة والمحاسبة.
ومع هذه العصابات تقاطعت مصالح ايران و”حزب الله”، فعملا على دعمها وتحفيزها على تأجيج الصراع المذهبي في محاولة لإعادة إحياء الممر البرّي الاستراتيجي الذي فقدوه بسقوط الأسد.
في المقابل، وإن كان من حق وواجب الأجهزة الأمنية الشرعية مواجهة عصابات “الفلول” والقضاء عليها قبل أن تتمدّد جغرافياً وتفرض واقعاً خارج سلطة الدولة والقانون، إلا أن المجازر التي ارتكبت بحق مدنيين أبرياء من الطائفة العلوية، تشكّل انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون ومعايير مؤسسات الدولة.
هذه الأفعال الشنيعة لم تضر فقط بصورة السلطة الجديدة، بل قدّمت خدمة مجانية لهذه العصابات، إذ ساهمت في تعزيز سرديّتها لجهة ادعاء حماية الطائفة العلوية.
والجدير بالذكر أن مخاوف جديّة من هكذا مجازر انتقاميّة ذات طابع مذهبي، كانت أحد أكبر الهواجس عقب فرار بشار الأسد، أو خلال الفراغ الأمني والسياسي الذي أعقب سقوط النظام، إلّا أنّ عدم حصولها ترك انطباعاً إيجابياً بين مكونات الشعب السوري ولدى المجتمع الدولي المراقب.
يجد السيّد الشرع نفسه اليوم أمام اختبار دقيق، حيث لا يقتصر التحدي على مواجهة فلول النظام والميليشيات الإيرانية الحليفة، بل يمتد ليشمل محاسبة كل من ارتكب تجاوزات بحق الأبرياء من الطائفة العلوية، في خطوة ضرورية لترسيخ سيادة القانون وتعزيز الثقة في السلطة الجديدة، ما يساهم في إضعاف عوامل حصول صراع أهلي. فلا مستقبل لسوريا من دون دولة قادرة على استيعاب جميع مكوّناتها، بعيداً من منطق الانتقام والإقصاء. عسى أن تكون أحداث الساحل استثناء وغيمة سوداء قطعت، وأن يكون الاتفاق الذي حصل مع المكوّن الكردي “قسد” هو القاعدة في العلاقة مع جميع المكونات الأخرى.
إن شبح الصراعات الأهلية لن يهدّد مستقبل سوريا فحسب، بل إن ارتدادات هذه الصراعات ستطول لبنان بشكل مباشر، حيث تسعى إيران و”حزب الله”، بالتنسيق مع فلول النظام السابق، إلى إعادة إحياء الممر البري من طهران إلى الضاحية الجنوبية عبر الساحل السوري، وهو ما سوف يعرقل عملية انتقال لبنان إلى مرحلة سياسيّة جديدة.
وعليه، كلما ازدادت الصراعات الأهلية في سوريا تأجّجاً، سيزداد معها تشدّد “حزب الله” في ممانعة قيام الدولة في لبنان، وهذا ما بدا جليّاً في مواقف الشيخ نعيم قاسم في المقابلة الأخيرة.