الفئة الثانية: النازِحونَ مِن وَطأةِ الأَحوالِ المَعيشِيَّةِ في سورِيا، وهذه الفئةُ تُشكِّلُ ظاهِرَةً شِبهِ دائمَةٍ قِوامُها أعدادٌ كَبيرَةٌ من الشَّعبِ السُّوري الكادِح، وبخاصَّةٍ العُمَّالِ غير المُتخَصِّصينَ أو المِهنيينَ غَيرِ المُحتَرِفين والذين يَعملونَ كَعُمالٍ زِراعِيين، أو عُمَّالٍ في وُرَشِ البناء أو كنواطيرٍ للمَساكِنِ والمَزارِعِ والورشِ والمُنشآتِ أو عاملينَ في المُنشآتِ الصِّناعِيَّة، ومنهم من يَعمَلُ كحِرَفيين في مَجالِ تَصليحِ السَّيَّاراتِ ميكانيكِيَّاً وإصلاحِ هياكِلِها وطِلائها وغيرُ ذلكَ من الأعمالِ اليَدَوِيَّة.
الفئة الثالثة: مُتموِّلونَ سوريونَ يُقيمونَ ما بين لبنان وسوريا، إما لأنَّهُم يُفضِّلونَ العَيشَ في لُبنان ويحرصونَ على الاحتَفاظَِ بهَوِيَّتهِم السُّورِيَّة، أو لكونَهُم استَحصَلوا بِشَكلٍ أو بآخَرَ على الجِنسَيَّةِ اللُّبنانِيَّة من دونِ تَوفُّرِ الشُّروطِ المَطلوبَة، ويَحرَصونَ على إيداعِ أموالِهِم أو جزءٍ منها في لُبنان، كما يَستثمرون بعضَها في لُبنان، ومِنهُم من يُقيمُ في لُبنانَ طَلباً للعِلمِ، نَظَراً لكونِ مُستوى التَّعليمِ في لُبنان أفضَلُ مما هو عليهِ الحالُ في سورِيا.
الفِئةُ الرَّابِعَة: وهي الفئةُ التي ينطبِقُ عليها توصيفُ النَّازِحين، وتَتَشكَّلُ من أولئكَ الذين اضْطَرَّتهُم الحَربُ للنُّزوحِ إلى لُبنان، إما لكونِهِم مُناهِضينَ للنِّظامِ القائمِ حالِيَّاً في سورِيا، وإمَّا هَرَباً من الأماكِنِ التي كانوا يُقيمونَ فيها واللتي كانت مَسرَحاً لعَملِيَّاتٍ عَسكَرِيَّة، بعضُها أَضحى مُدمَّراً وغَير صالِحٍ للسَّكَن، والبَعضُ الآخَرَ يُمكِنُ العَودَةُ إليهِ وإن كانَت مَنازِلُهُم بحاجَةٍ لأعمالِ تَرميم، والبَعضُ الأَخير لا يُمكِنُ العَودَةُ إليه كونَهُ لا يزال يُعتبَرُ من الأماكِنِ غير الآمِنَة أو لكونِ مَنازِلهم شُغلَت من قبلِ أشخاصٍ آخرين سوريين أو غير سوريين لأسبابٍ جيوسياسِيَّة – ديمغرافيَّة.
لبنان سَيراً على عادتِهِ قاربَ هذه المسألةِ على غرارِ مُقارباتِهِ للمَسائلِ المَطروحَةِ بعيداً عن التَّخطيطِ والتَّنظيم، إنما بقَراراتٍ مُرتَجلَةٍ وغيرِ مَدروسَةٍ ولا مَحسوبَةِ النَّتائج، ويُضافُ إلى ذلك تَبايُنِ المواقِفِ السِّياسِيَّةِ اللبنانِيَّةِ تِجاهَ ما دارَ ويَدورُ على السَّاحَةِ السُّورِيَّةِ من حُروبٍ ما بين النَّظامِ ومُعارِضين له (صِراعٌ على السُّلطَة)؛ وعليه افتَقَدَ لبنانُ لمَوقِفٍ موحَّدٍ مَدروسٍ تجاهَ مَسألةِ النَّازِحين السُّوريين في لبنان. الأمرُ الذي تسبَّبَ بانتِشارِهِم على امتِدادِ الأراضي اللبنانِيَّةِ، وإن كان بنِسَبٍ مُتفاوتَة. وتَوزَّعوا في مُختلِفِ المناطِقِ السَّكنِيَّةِ كمُستأجِرين، أو إشغالٍ لقاءَ بدَلٍ أو من دونِه؛ والباقون منهم تَوزَّعوا على مُخيَّماتٍ أنشِئت خِصِّيصاً لَهم. وخاصَّةً في مِنطَقَتَي البِقاعِ والشَّمال اللُّبناني.
للأسف لم يتَّعِظِ المَسؤولونَ اللُّبنانيونَ من تجارِبِهم السَّابقةِ مع اللاجئين الفِلسطِينيين على الأراضي اللُّبنانِيَّة، ونَسوا أن مَسألَةَ النُّزوحِ وإن بَدَت بادِئ الأمرِ عَمَلِيَّةً إنسانيَّةً مُؤقَّتَة، إلاَّ أنها سُرعانَ ما يُؤدي التَّبايُنُ في المَواقِفِ السِّياسِيَّةِ الدَّولِيَّةِ والإقليمِيَّةِ والمَحلِّيَّةِ إلى تشويهِها، والتَّسبُّبِ بتَعقيداتٍ تَحولُ دونَ تَوفيرِ حُلولٍ سَريعَةٍ يُمكَنُ تنفيذها في مَدى مَنظورٍ ومَعقول، فكيفَ الحالُ في ظِّلِّ تنامي أعدادِ النَّازِحينَ إلى أعدادٍ قياسِيَّةٍ بحيث تُقارِبُ نِسبَتهم لما يزيدُ عن رُبعِ أو ثُلثِ عَدَدِ الشَّعب اللُّبناني، بما يَنطوي ذلك على مَخاطِرَ سِياسِيَّةٍ واقتِصادِيَّةٍ ومَعيشِيَّةٍ، ورُبَّما تُهدِّدُ الاستِقرارَ الأَمنِيِّ والاجتِماعِيِّ في لبنان.
لم يَكُن وارِدٌ على ذِهْنِ السِّياسِيينَ اللُّبنانيين أن النُّزوحَ السُّورِيَّ قد يَطولُ إلى هذا المَدى الزَّمَني، وأنَّهُ سَيَتَسَبَّبُ في ما يتسبَّبُ به من إرهاقٍ للوَضعِينِ الإقتِصادي والاجتماعي الذي ينوء اللبنانيونَ من وطأتيهِما، نتيجَةَ الأعباءِ المَعيشِيَّةِ الثَّقيلَةِ، والتي تَزامَنت مع الانهِيارٍ الاقتِصادِيٍّ والمالي الشَّامِلَين، بالإضافَةِ إلى انهِيارِ قيمَةِ العِملَةِ اللبنانِيَّة؛ خاصَّةً لأنَّهُم أي المسؤولينَ كانوا مَبهورينَ بالأَموالِ والمُساعَداتِ العَينِيَّةِ التي كانت تَرِدُ إلى لبنانَ لتَخفيفِ أعباءِ إدارَةِ شُؤونِ النَّازحِين، والتي يبدو أن بَعضَهُم كانَ يَستحوذُ على نَصيبٍ منها، بالمُباشِرِ أو عَبرَ جَمعِيَّاتٍ مُقرَّبَةٍ منهم.
للأسَفِ لقد تَبَدَّلَتِ الأوضاعُ السِّاسِيَّةُ العالَمِيَّةُ ولم يَعُد يُشكِّلُ النَّازِحونَ السُّوريونَ أولويَّةً بالنّسبَةِ للمُجتَمَعِ الدَّولي، الذي وَجَدَ نَفسَهُ فجأةً أمامَ مُعضِلةِ الحَربِ في أوكرانيا والتي تَسبَّبت بأزمَةٍ نُزوحٍ غيرِ مَسبوقَةٍ باتِّجاهِ دُوَلِ أوروبا، والتي لا تَزالُ ناشِطَةً لِغايَةِ اليَوم. فكيفَ الحالُ إذا أضَفنا إلى ذلك تَبِعاتِ تلك الحَربِ عسكَرِيَّاً واقتِصادِيَّاً ومالِيَّاً ومَعيشِيَّا على العالمِ أجمَعِ وبخاصَّةٍ دُوَلِ أوروبا التي بَدأت تُعاني من شُحِّ في مَوادِ المَحروقاتِ، والمُنتَجاتِ الزِّراعِيَّةِ الأساسِيَّةِ كالقَمحِ والذُّرَةِ وغيرِهِما من البُقولِيَّات والزُّيوت.
كُلُّ تلك المُتغيِّراتِ تُملي على المَعنيينَ نَبذَ خلافاتِهم جانِباً، والعَملِ وَفقَ رؤيَةٍ وَطنِيَّةٍ مُتكامِلَةٍ تأخُذُ بعَينِ الاعتِبارِ أن النُّزوحَ السُّورِيَّ إلى لُبنانَ يَنطوي على مَخاطِرَ جَمَّةٍ، يَنبغي العَمَلُ على مُعالَجَتِها بمسؤوليَّةٍ، وبَعيداً عن الشِّعاراتِ والخِطاباتِ الاستِفزازِيَّة، وبالتَّنسيقِ مع المَعنيينَ في الهَيئاتِ الدَّولِيَّةِ كما في النِّظامِ السُّورِيِّ المَعنِيِّ الأوَّلِ بهذِهِ المَسألَةِ التي لا يُمكِنُ حَلَّها من دونِ التَّنسيقِ مَعه. وعلينا كلُبنانيينَ أن نَنظُرَ إليها باعتِبارِها مَسألَةً إنسانِيَّةً في المَقامِ الأولِ، ولكِنَّها تحمُلُ في طيَّاتِها مَخاطِرُ أشدُّ وأقسى إن لم تُعالَجَ في القريبِ العاجِلِ، من تلك المَّخاطِرِ: اكتِظاظٌ سُكانيٌّ غير مَسبوقٍ، بمُعدَّلٍ 600 فرد في الكلم الواحِد، إختِلالٌ في التَّوازُناتِ الدِّيمغرافِيَّةِ مَناطِقِيَّاً، وطائفِيَّاً ومَذهَبِيَّا، ارتفاعٌ حادٌّ في مَعَدَّلِ البَطالَةِ في لبنان، خِسارَةُ لُبنان لمَبالِغَ طائلَةٍ من العُمُلاتِ الصَّعبَة نتيجَةَ تَحويلِها يومِيَّاً من لبنان إلى سوريا، إفشالُ مُحاولاتِ السُلُطاتِ اللبنانِيَّةِ الهادِفَةِ إلى التَّخفيفِ من حِدَّةِ الأزَماتِ المَعيشِيَّةِ نتيجَةَ تَهريبِ كَمِّيَّاتٍ كبيرةٍ من السِّلَعِ المَدعومَةِ حُكومِيَّا إلى سورِيا وبخاصَّةٍ المَحروقاتِ والمَوادِّ الغِذائيَّةِ وفي صَدارَتِها القَمحُ والطَّحينُ وغَيرِهِما؛ قُصورُ الدَّولَةِ اللبنانيَّةِ عن توفيرِ أدنى احتياجاتِ اللبنانيينَ من مَوادِّ الطَّاقَةِ كالكَهرباءِ والمَحروقاتِ ومِياهِ الاستِعمالِ وغيرِها من الاحتِياجاتِ اليومِيَّةِ الضَّرورِيَّة، زِيادَةٌ في مَساحاتِ المَساكِنِ العَشوائيَّةِ ومُخيَّماتِ اللَّاجئين، ارتِفاعٌ ملحوظٌ في مُعدَّلِ الجَريمَة، بحيث أن الأشخاصَ الذين يَعيشون في ظِلِّ أوضاعٍ غيرِ مُستَقِرَّةٍ، وبَعيداً عن الرَّقابَةِ العائلِيًّةِ يُصبِحونَ أكثَر مَيلاً لارتِكابِ الجَرائم، وبخاصَّةٍ إذا كانت الأوضاعُ الأمنِيَّةُ غيرِ مُستَقِرَّة، أو لِكون الأجهِزَةِ الأمنِيَّةِ غيرِ قادِرَةٍ على فَرضِ الأمنِ كما ينبغي لأسبابٍ مُختلِفَة، زيادةٌ في الأعباءِ الاقتِصادِيَّةِ للضَّغطِ على السُّلطاتِ اللبنانيَّة من أجلِ فَرَضِ إملاءاتٍ لا تَصُبُ في المَصلَحَةِ اللُّبنانِيَّة، كما يُمكِنُ للنِّظامِ السُّوري استِغلالَ مسألةَ النَّازِحينَ لتَّدخُّلِ في الشُّؤونِ اللبنانيَّة.
إن حلَّ مسألةٍ مُعقَّدَةٍ كمَسألَةِ النَّازِحينَ تَستوجِبُ الاستِعدادَ لها، وجَمعِ المَعلوماتِ الأساسِيَّةِ التي تُساعِدُ على تَحديدِ أبعادِها وحَجمِها، بدءاً بإحصائهم وصولاً إلى تحديدِ وَضعيَّةِ كُلٍّ منهم القانونِيَّةِ ونشاطِاتِه، مُروراً بأماكِنِ انتِشارِهِم، وما إذا كانوا يَتعاطونَ في أمورٍ محظورَةٍ «سِياسِيَّةٍ أم أمنِيَّةٍ أم استِخباراتِيَّةٍ إجرامِيَّة… الخ وهذا يستوجِبُ تكليفَ الجِهاتِ المعنِيَّةِ قانوناً بهذا الأمرِ وفي طَليعَتِها المُديرِيَّةُ العامَّةُ للأمنِ العامِّ في ما خَصَّ مَشروعِيَّةَ دُخولِهِم الأراضي اللبنانِيَّةِ وإقامَتِهم عليها، والمُديرِيَّةِ العامَّةِ لأمنِ الدَّولَةِ في ما خَصَّ الضَّالِعينَ بنَشاطاتٍ من شأنِها أن تَمَسَّ بأمنِ الدَّولَةِ الدَّاخِلي أو الخارِجي، ويُضافُ إلى هذينِ الجِهازينِ البلدياتُ كُلٌّ في ما خَصَّها، بحيث يُمكِنُ الطَّلبُ إليها إليها بضَرورَةِ إفادَةِ المُديرِيَّةِ العامَّةِ للأمنِ العام بأسماءِ الأشخاصِ الموجودين ضِمنَ نِطاقِها الإقليمي، وفي هذا الإطارِ يُمكنُ إلزامُ اللُّبنانيينَ ومُختَلِفِ المُقيمينَ في لُبنانَ على نحوٍ مَشروعٍ بإفادَةِ البَلَدِيَّاتِ والأمن العامِ عن الأشخاصِ المُقيمين لديهم أو مَعهم، أو الذين يَعملونَ لديهِم، وتزويدِ تلك المَراجِعِ بصورَةٍ عن وثائقِهم الثُّبوتِيَّةِ تِلقائيَّاً أو بناءً لتعميم. وأيُّ مُقارَبَةٍ غيرِ مَدروسَةٍ وغيرِ مَبنِيَّةٍ على مَعلوماتٍ موثوقَةٍ ودقيقَة، تكون بمَثابَةِ تَخَبُّطٍ عَشوائي. أمَّا المِعيارُ فينبغي العملُ على إعادَةِ جَميعِ القادِمينَ والمُقيمينَ على نَحوٍ غيرِ مَشروع ممن لا تنطبقُ عليهم صِفَةُ اللاجئ السِّياسي، كما إعادَةِ النَّظرِ في تنظيمِ العَمالَةِ السُّوريَّةِ في لبنان، والعملُ بالتَّنسيقِ مع الجِهاتِ الدَّوليَّةِ المانِحَةِ والمَعنِيَّةِ باللَّاجئين، والسُّلطاتِ السُّورِيَّةِ لإعادَةُ اللَّاجئينَ لأسبابٍ أمنِيَّةٍ إلى داخِلِ الأراضي السُّورِيَّةِ وإقامَةِ مَلاجِيءَ آمنةٍ لائقَةٍ لتَأويَهُم، وتَوفيرُ مُستلزَماتِ العَيشِ الكَريمِ لَهُم، وتَحديدُ أماكِنِ إقامَةِ في لبنان خاصَّةً باللاجئينَ السِّياسِيينَ منهُم مع ضمانِ حِمايَتِهِم.