عندما كتب الكاتب السوري محمد الماغوط، قصّة الفيلم السوري “الحدود” في العام 1984 بنكهته الكوميدية، والذي أخرجه وقام ببطولته الفنّان السوري دريد لحّام، وشاركته في التمثيل رغدة وكلّ من رشيد عساف، وهاني السعدي وهاني الروماني وعمر حجو وأحمد حداد، كان يعرف بحدسه أنّ غالبية السوريين سيفرض عليهم هذا النظام نسخة فيلم “الإبن الضال”، وينزع عن بعضهم حقّ المواطنة، ويُمنعوا من الدخول الى وطنهم، فيقبع المئات بين الحدودين لأيام، وربّما لشهور وليالٍ، بانتظار “فرمان” من الوالي.
هذا هو المصير الذي يعيشه أكثر من 450 مواطناً سورياً، عالقين بين الحدودين اللبنانية والسورية. يعيشون في العراء ويلتحفون السماء، ويقتاتون بعض ما يُقدّمه لهم سائقو شاحنات النقل الخارجي، المخوّلون وحدهم عبور الحدود، وما يستطيع أن يؤمّنه أشخاص يعملون في بلدية مجدل عنجر في مكبّ النفايات المُحاذي لتلك النقطة، من مياه شفة وبعض الطعام وما تيسّر من أغطية. فتحوّلت حالهم كما حال “غوار”. فكلّما تأخّرت موافقة سلطات بلادهم على دخولهم الى سوريا كلّما تفاقمت مشكلتهم الإنسانية والحياتية وتحوّلوا الى ضالين عند حدود بلادهم، ولا يستطيعون العودة الى لبنان، القادمين منه بعد رحلة عذاب التهجير، بحكم قرار التعبئة العامة الذي يقضي باقفال الحدود البرية امام أي وافد غير لبناني.
هناك، على بُعد نحو خمسة كيلومترات من مركز الأمن العام اللبناني للقادمين في نقطة المصنع شبه المقفل، الّا من بعض الحرس المولجين حراسته، تجمّع عشرات الأشخاص، من النساء والشباب والأطفال وكبار السنّ، في منطقة تبعد امتاراً قليلة من مركز الفيلق العسكري الثالت، المُتمركز في السفوح الجبلية المُشرفة على مركز جديدة يابوس السوري المؤدّي الى لبنان، الى الطريق الدولي الفاصل بين المركز المذكور ونقطة المصنع اللبنانية والتلال المحيطة بها، ما يمنع إقتراب أحد منهم، وخصوصاً الصحافيين إذ يتمّ اطلاق النار باتجاه كلّ من يحاول التصوير. فيعيش سوريون تغريبتهم اليومية ورواياتهم مع الترحال والتهجير والقمع الدامي.
يروي ابو حليم الديري انه يقبع في العراء منذ نحو 7 ايام بين الحدودين، بعدما منعته السلطات السورية من الدخول الى سوريا بحجة فيروس “كورونا” وتفشّيه في لبنان، ويوضح انه استنفذ كل ما لديه من مياه وطعام، ويقول: “كنت بعرف انّو الامن السوري بيتأخّر في اصدار الموافقة، واحتياطاً، نقلت معي كم قنينة مياه للشرب من احد المحال بالقرب من الامن العام اللبناني، وربطتي خبز وعلبة لبنة. وصلت الى هذه النقطة عن طريق جبلية من احدى القرى اللبنانية المحيطة في مركز المصنع دلّني عليها راعٍ مقابل 100 الف ليرة لبنانية، على أساس ان اي مواطن بلاده هي الأولى أن تأويه في أحلك الظروف”. يتأفّف بحسرة لمشاهدته يومياً سيارات تابعة لأحد الأحزاب اللبنانية تدخل وتخرج من دون أن تخضع لقرار الحجر، “اللي بوجّع القلب انّو ابن الوطن صار ضيف بانتظار موافقة دخوله”.
أيضاً يزن حمو، لا همّ لديه إن تمّ ادخاله والحجر عليه 14 يوماً حسب الآليات المُّتبعة في كل دول العالم، يقول: “معي زوجتي، حالتنا حالة بالنهار، درجة الحرارة كتير عالية لا في اكل ولا في مياه شرب ولا فيك ترجع ولا فيك تكمّل”. ويناشد سلطات بلاده بأن ترحمهم. وتستغرب هيام ابنة حلب، (رفضت ابراز كامل هويتها خوفاً من معاقبتها) طريقة تعامل سلطات الأمن العام السوري مع مواطنيها، ورفضها دخول البلاد، وتقول: “اذا سلطاتنا عم تمنعنا ندخل بلادنا مو عتب على اللبناني وغير اللبناني يمنعنا”. لتردف: “لولا سائقي الشاحنات وولاد الخير اللي بجيبولنا مياه وشوية اكل، كنا منموت من الجوع”.
مصدر أمني لبناني أكد لـ” نداء الوطن” أنّ هذه النقطة تشهد بشكل مستمرّ وجود سوريين يبيتون بين الحدودين، منذ بدء التعبئة العامة واقفال الحدود”، وقال: “يتم دخولهم عبر طرق غير شرعية، وعندما يحاولون الدخول الى سوريا تمنعهم سلطات بلادهم الى حين دخول الحجر الصحي وفي سوريا لا يوجد سوى مركز واحد”، ليردف: “في فترة التعبئة العامة وصل عدد السوريين الى 600 شخص عالقين، منهم من عاد ودخل خلسة الى لبنان، ومنهم من دخل خلسة الى سوريا، ومنهم من اتت الموافقة على دخوله الى الحجر”. وأكد أن “اشكالية فتح المعابر اليوم هي عند السوري نفسه، فلا يمكن للسوري فتح الطريق من دون موافقة اللبناني، وكذلك بالعكس”.
من جهته، أكد مصدر أمني سوري لـ “نداء الوطن” أن القانون المُتّبع للحدّ من انتشار “كورونا”، يُلزم اي وافد بالحجر 14 يوماً، لذا يتمّ التعامل مع اي وافد من هذا المنطلق، خصوصا وأنّ في سوريا مركزاً واحداً للحجر الصحي، وهو في منطقة الدوير في مخيّم الوافدين شرق دمشق، الذي أُسس لتجمّع طلائع “البعث” للمرحلة الابتدائية ونشاطاته الصيفية، فتحوّل مركزاً للنازحين من منطقة الغوطة الشرقية، وخلال انتشار”كورونا” تم تحوّيله مركزاً للحجر الصحّي حيث لا يستوعب أكثر من 150 سريراً بالرغم من انه غير مطابق للمواصفات ولا حتى يستوفي الشروط الصحية المتبعة”.
وأضاف المصدر: “إن السلطات السورية تتأخر في اعطاء الموافقة للوافدين لحين يتم الانتهاء من مدة الحجر لأشخاص آخرين، لأن الامكانات ضئيلة جداً والضغوط أكبر من الموجود بكثير”.