تشغل مسألة الوجود السوري في لبنان اهتمام الرأي العام في وطن الأرز، نظراً لعدد المهجّرين السوريين المرتفع جداً حيث تجعله الاحصاءات الرسمية في حدود 1,882 مليون مهجّر ونازح. ومثل هذا الثقل الديمغرافي يلقي بتأثيره على مجمل الحياة اللبنانية في كافة وجوهها: الديمغرافية والسياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والثقافية والتربوية. فلم يحدث في أي بلد من بلدان العالم، أن يتحمّل شعب دولة في حدود أربعة ملايين نسمة ما يقارب نحو نصف سكانها من اللاجئين والمهجرين. وهذا ما يعيشه لبنان اليوم ويلقي على كاهله همّاً جديداً نشير إلى أهمها:
1 – همّ الكيانية السيدة الحرة المستقلة المعبرة عن أن لبنان كلٌّ بذاته وليس جزءاً من غيره، وبالتالي فهو حقيقة جغرافية وتاريخية وليس كما يراه بعض السوريين جزءاً من سوريا وخطأً جغرافياً وتاريخياً. وجاءت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لتؤكد هذا الأمر، ثم جاء القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن ليؤكد إجماع الشرعية الدولية على هذا الأمر وعلى تأكيد الخصوصية اللبنانية.
2 – همّ الوجود الحرّ وهو همّ طالما شدّد عليه المفكّر اللبناني العالمي شارل مالك والقائل «بأنّ الهمّ المركزي لدى اللبنانيين كان ولا يزال، ضمان الوجود الحرّ لانسانه وجماعاته وكيانه ودولته فالانسان الانسان لا ينفصم عن الحرية، فلا حرية إلاّ في كمال الانسان ولا انسان إلاّ في كمال الحرية. ولا انسان حقاً إلاّ الانسان الحرّ». ومثل هذه الحرية كانت منذ القدم، ولا تزال، مركوزة في وعي ولاوعي اللبنانيين لأسباب دينيّة ولاهوتيّة وفلسفيّة يجري التعبير عنها بالهوية الثقافية كخلاصة لعاملين: حصانة الجبل ونداء البحر وبهما ومنهما تولد وتنمو زهرة الديمقراطية!
3 – همّ الحياة المشتركة المسيحية – الإسلامية، اذ يؤكد بطاركة الشرق الكاثوليك بأنّ العناية الالهية وضعتنا سوياً مسيحيين ومسلمين لنحيا متعاونين متضامنين في هذه البقعة من أرجاء العالم. على أنّ حياة المؤالفة المسيحية – الإسلامية هذه ليست مسألة سهلة نظراً لما لدى كل ديانة من رهانات ثقافية – حضارية – لاهوتية وخصوصاً في موضوع الأولوية: فهي الحرية كقاعدة للأديولوجية المسيحية بحسب البشارة (الإنجيل)، وهي الوحدة كقاعدة للأيديولوجية الاسلامية بحسب الكتاب (القرآن). وبمقدار ما يتمكن اللبنانيون من الجمع بين الحرية والوحدة في مسارهم التاريخي فإنهم يؤكدون الحقيقة القائلة ان لبنان هو بلد الرسالة السماوية ببعديها الحر والواحد في آن!
4 – همّ تحقيق التكامل بين الجغرافيا والتاريخ. وتمنح الجغرافيا لبنان الدولة ثلاث ثروات أساسية:
• المياه بنسبة تساقط على جباله تصل إلى حدود عشرة مليارات متر مكعب.
• الطبيعة الجبلية في موقعها بموازاة الشاطئ بما يجعل لبنان ممراً الزامياً بين البحر والصحراء يمتد من الشمال إلى الجنوب وبالعكس.
• الوضعية الجغرافية الجبلية الصعبة والوعرة التي جعلته ملجأ للأقليات.
لبنان أكثر استهدافاً
وإنطلاقاً من هذه المعطيات الطبيعية صار لبنان أكثر استهدافاً وعرضة لأطماع ومطامح الدول القريبة والبعيدة: فهو مستهدف في مصادره المائية لإرواء الجوار (اسرائيل وسوريا) وهو بفعل نشوء اسرائيل صار دولة – حاجزاً بين اسرائيل وسوريا يستدعي الحياد او التحييد. وإلا فهو بحاجة للدفاع عن وجوده وسيادته واستقلاله بقواه الذاتية المحدودة من جانب، وبقوى مؤسسة الأمم المتحدة من جانب آخر ونموذجه القرار رقم 1559 لمجلس الأمن، يضاف إليه ثالثاً تحوّل جبال لبنان إلى ملجأ للأقليات المضطهدة في المنطقة بحيث تمثل هذه الأقليات مجتمعاً متفككاً عسكرياً وسياسياً، ولكنه متجدد ومتفتح ثقافياً واقتصادياً. وبهذه المبادرات الثلاث يتم التكامل بين الجغرافيا والتاريخ.
5 – همّ ترسيم العلاقة الصحيحة بين الأكثرية والأقليات. إن الأكثرية العربية والموجودة على أرض الواقع في الشرق الأوسط هي الأكثرية العربية السنيّة (تمثل بحسب المراجع الديمغرافية نسبة تتجاوز 70% من سكان الاقليم). وكل ما عداها من أقليات وجماعات اسلامية أو غير اسلامية وحتى غير دينية تدخل في باب الأقليات وعددها 59 أقلية في المنطقة. وهي بهذه النسبة تمثّل أكبر حشد أقلوي في أي منطقة من مناطق الكرة الأرضية. وهذا يعود بالطبع إلى عاملين اساسيين: جغرافي/ صحراوي من جانب، ونشوء الأديان فيها من جانب آخر: اليهودية ثم المسيحية ثم الاسلام.
ومن دون العودة إلى المراحل التاريخية التي رسمت العلاقات بين الأكثرية والأقليات، كيف نفسّر عملية طرد العرب السنة من سوريا وتهجيرهم إلى عدة دول وفي مقدمها لبنان. إن البحث عن أسباب تهجيرهم مسألة أساسية لأنها هي العامل الحاسم لتأكيد أو نفي امكانية عودتهم إلى بلادهم.
ففي تقرير لمؤسسة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العالم أكد التقرير أن التحليلات العامة تتحدث عن المهجرين أو النازحين بسبب الحروب ولكنها لا تتحدث عن وقوع الحروب بهدف تهجير من هجّر. بمعنى واضح المهجرون ليسوا دائماً بنتيجة الحروب بل قد يكونون سبباً لها.
وهذا هو وضع العرب السنة في سوريا. إن دراسة معمّقة للاستراتيجية الاسرائيلية على مدى السنوات القادمة. تؤكد أنّ الهدف الأول والأكبر الذي سيواجه اسرائيل ليس سلاح النار العربية، بل سلاح الديمغرافيا اي سلاح بطون النساء العربيات الحوامل، فإذا كان معدل الولادة لدى المرأة اليهودية هو ولدان فهو عند المرأة العربية يتراوح بين أربعة وسبعة أولاد وبالتالي سيصبح العرب الأكثرية في دولة سرائيل ذاتها. وهو ما يخشاه الاسرائيليون منذ الآن ويحاولون تجنبه بكل الوسائل: طرد العرب من داخل الدولة العبرية، إقامة حدود من الجدران المسلحة، وأهم ما ينبغي عمله إبعاد العرب السنة بكتلتهم الكبرى العربية – السنية – السورية، عن حدود اسرائيل الشمالية والشرقية.
هذا يفسّر وضع المهجرين السوريين إلى مختلف البلدان وبالتأكيد وضعهم داخل لبنان. فالعرب السنة الذين خرجوا من سوريا إلى لبنان لم يهجّروا منها كي يعودوا اليها، بل كي لا يعودوا أبداً لأن عودتهم فيها خطر على جهتين أساسيتين: اسرائيل والدولة الأقلوية في سوريا، فالمطلوب غربياً واسرائيلياً ثلاثة أمور:
– ازاحة النفوذ العربو- سني عن شرقي المتوسط وبالتالي عن حدود اسرائيل.
– إقامة دويلات طائفية في المنطقة تشكل نموذجاً تحتذي به اسرائيل وتصبح جسماً طبيعياً في المنطقة وليست جسماً غريباً عنها.
– وضع اليد على النفط العراقي أهم وأغزر نفط في المنطقة.
سطحية التعاطي
في مراجعة لتصريحات المسؤولين اللبنانيين عن وجود ومصير المهجّرين السوريين إلى لبنان، يتبين مدى البؤس والسطحية التي يقاربون بها مثل هذا الموضوع الاستراتيجي بامتياز، ولهذا تراهم يلومون الغرب ويتعجبون من سخائه على المهجّرين ومن عدم اهتمامه بعودتهم إلى بلادهم بل اهتمامه بتمويلهم في لبنان عائلات ومدراس.
إنّ جميع المسؤولين اللبنانيين موضوعُونَ اليوم أمام الامتحان الصعب: مصير المهجرين (وليس النازحين) ومصير لبنان ومصير اسرائيل!.. إنّ أولوية الغرب كانت دائماً وستبقى لمصلحة اسرائيل!!
(*) باحث في الفكر الجيوسياسي