طفت قضية النزوح السوري في لبنان على واجهة الأحداث السياسيّة، حتّى كادت تتقدّم على موضوع رئاسة الجمهوريّة والفراغ الدّستوري. وما لا شكّ فيه أنّها واحدة من أكبر التحديات التي يواجهها لبنان في الوقت الحاضر، وحلّ هذه القضيّة لا يمكن أن يقتصر على القدرات اللبنانيّة التي تعتبر أساساً عاجزة عن حلّ أبسط الإشكاليّات. لكن الإشكاليّة تكمن في محلّ آخر، وهو توقيت إثارة هذه القضيّة في هذه الظروف الإقليميّة بالذات. وهل يمكن حلّ هذه القضيّة في المدى المنظور في ظلّ الفراغات الدّستوريّة التي تطغى على الحياة السياسيّة اللبنانيّة؟
من البديهيّ ألا تكون مقاربة هذا الملفّ مقاربة محلية فقط لأنّه تخطّى القدرات اللبنانيّة ويرتبط بالتداعيات الجيوبوليتيكيّة لما يحدث من تقارب في محاولة لإعادة الدولة السوريّة إلى الحاضنة العربيّة. من هذا المنطلق تُقرأ التحرّكات التي تحدث اليوم في الساحة اللبنانيّة في ما يتعلّق بهذا الملفّ. فالخشية من أن تكون أصابع محور إيران في لبنان وراء بعض التوقيفات التي حدثت لبعض المعارضين اللاجئين في لبنان. إذ قد يندرج تسليمهم في سياق عمليّة انتقاميّة يقودها النّظام السوري عبر حلفائه الأمنيين، مستغلّاً النقمة الشعبيّة للبنانيّين التي ترتفع بشكل تدريجي نتيجة ممارسات بعض هؤلاء اللاجئين الخارجة عن القانون.
مقابل ذلك، أي صوت إنسانيّ في هذه القضيّة يُقابل بعنصريّة من قبل محور إيران الذي ظاهريّاً يبدي حرصه على سلامة هؤلاء النّازحين فيما هو مَن يعمل لتسليم معارضي وليّ أمره في الشام؛ إضافةً إلى زرعهم في مناطق بهدف زعزعتها ديموغرافيّاً عند أوّل اضطراب أمني قد ينجح بافتعاله. فضلاً عن استغلال المنتفعين من هذا المحور أموالَ الدّول المانحة التي باتت خمير خبز فساد أزلامه في الدّولة اللبنانيّة. وبالطبع لا يمكن فصل إثارة هذا الملفّ بهذا التوقيت بالذات، عن مندرجات الاتفاق السعودي الإيراني حيث بات من الواضح أنّ نظام الأسد لا يريد هؤلاء لأسباب ديموغرافيّة، إضافةً إلى ذلك أهمّ ما رشح من تسريبات عن هذا التقارب يكمن بضرورة الضغط الإيراني على «حزب الله» اللبناني والنظام السوري لإنهاء هذا الملفّ الإنساني بأفضل طريقة، على قاعدة الحفاظ على حياة هؤلاء النّازحين من دون وقوعهم تحت مقصلة النّظام الأمني البعثي. ولعلّ هذا ما يفسّر الحملة التي شنَّت على السلطات اللبنانيّة التي تعمل في هذا الملفّ سياديّاً عبر توقيفات بعض السوريين المخلّين بالأمن.
ومن الحلول التي يبدو أنّها ستوضع على بساط البحث الإقليمي هي العرض الذي تقدّمت به الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا التي أبدت استعدادها لاستقبال النازحين السوريين المتواجدين في لبنان. ومع اشتراط انسحاب «حزب الله» من المناطق الحدوديّة التي يحتلّها في القصير والقلمون، قد يشكّل هذا الطرح الباب الوحيد لحلّ هذا الملفّ وبالطبع بضمانات دوليّة بعبور قوافلهم إلى منطقة الإدارة الذاتيّة. ومَن أمّن خروج عناصر داعش بباصات مكيّفة من لبنان فلن يتعذّر عليه تأمين خروج النّازحين ولو سيراً على الأقدام!
ولا يتذرّعنَّ أحد بفراغ بعض المؤسّسات الدّستوريّة اللبنانيّة وقصور الحكومة الحاليّة عن أداء أدنى واجباتها الإنسانيّة تجاه مواطنيها اللبنانيّين أوّلاً وتجاه النازحين واللاجئين المتواجدين على الأراضي اللبنانيّة. إذ لم يعد مطلوباً من هذه السلطات اليوم البحث مع الجهات الدّوليّة في كيفيّة تحسين الظروف المعيشية لهم عبر توفير المأوى والمياه النظيفة والغذاء والرعاية الصحية والمفترَض أن ينتقل البحث مع الجهات الدّوليّة في تأمين هذه الحقوق لأيّ نازح في بلده، وليس البحث عن السبل التي تسمح باقتلاع جذوره منه. وهذه المسألة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العمل مع المنظمات الإنسانية المحلية والدولية لتوفير الدعم اللازم لهذه القضيّة.
أمّا بالنسبة إلى توفير فرص العمل للنازحين السوريين في لبنان، بما في ذلك الأعمال الموسمية والصناعات الصغيرة والمتوسطة، فيجب التركيز على تعزيز المشاريع التي تستهدف التنمية المحلية اللبنانيّة لتأمين فرص العمل للمواطنين اللبنانيّين وليس للنازحين السوريّين على حساب المواطنين اللبنانيّين. على أن يتمّ ضبط هذه العمالة الأجنبيّة. كذلك يجب الانتقال من مشروع توفير فرص التعليم للأطفال السوريين النازحين في لبنان، إلى العمل مع المنظمات غير الحكومية لتوفير المدارس والمواد التعليمية والمعلمين في مناطق العودة المقترَحَة، أو في المخيّمات التي من الممكن إقامتها على الحدود اللبنانيّة السوريّة.
وأيّ إدارة لبنانيّة لا تتضمّن هذه الاستراتيجيّة يعني أنّها متواطئة مع النّظام السوري نفسه الذي لا يريد إرجاع هؤلاء النّازحين للأسباب التي باتت معروفة. لا سيّما بعد توقّف العمليّات العسكريّة. ولا يظنّنَّ أحد أنّه بتقديمه هذه الخدمة للنظام قد يفتح أبواب قصر بعبدا أمامه ظنّاً منه أنّ هذا النّظام استعاد قدرته على فرض شروطه في محيطه الاستراتيجيّ.
وأيّ دعم دولي سواء أكان ماليّاً أم معنويّاً للحكومة اللبنانية والمنظمات الإنسانية، يجب أن تتبدّل وجهته من كيفيّة توفير استقرار استمرار النّازحين في لبنان إلى كيفيّة استمرار استقرارهم على العودة إلى وطنهم عودة آمنة، على غرار ما بدأ القيام به بعض الدّول الأوروبيّة. على أن يسهّل حلفاء سوريا هذه العودة، إن أراد هؤلاء كلّهم المساعدة في تقديم إعادة أوراق اعتماد الوطن السوري إلى جامعة الدّول العربيّة من جديد. فهل اقترب الحلّ في سوريا لوقف نزوح جزء من وطن إلى لبنان وإعادة المواطن السوري إلى وطنه الحقيقي تأكيداً على احترام الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان؟