لا يستغرب المراقبون ومعهم ديبلوماسيون عرب وأجانب، ردّات الفعل السلبية التي تسبّب بها النزوح السوري على أكثر من مستوى. وإن كان هناك ما يبرّر البعض منها، ولا سيما إن كانت البيئة الحاضنة لهم مسرحاً لها، ولكنها لا يمكن تبريرها على ما تشهده الساحة الحكومية من نماذج، وهو ما يدلّ إلى انّ هذا الملف بات في مرتبة تقع بين «مطرقة العجز» و«سندان الفشل». وعليه، ما الذي يقود إلى هذه المعادلة؟
بعيداً من منطق المناكفات السياسية والحزبية وما قادت إليه من مزايدات يسمح بها ملف النزوح السوري، وما بلغه في شكله وواقعه والنتائج المترتبة عليه من مخاطر، يبقى منطقياً الاعتراف بأنّه ما زال يعكس بقوة حجم الأزمة السورية التي دخلت منذ منتصف آذار الماضي عامها الثالث عشر، بكامل تداعياتها الداخلية، كما الإقليمية والدولية منها، نتيجة استمرار الخلافات القائمة بين الأحلاف الكبرى التي شاركت فيها بكامل إمكاناتها العسكرية والديبلوماسية والمالية، لجهة كيفية معالجتها وطريقة التعاطي مع نتائجها الكارثية.
فما قادت اليه الحرب السورية، وما شهدته من اجتياحات مدمّرة ونزوح جماعي باتجاه دول الجوار بات كارثياً، بمعزل عمّا جرى من انتشار وتوسّع في اتجاه عشرات الدول في مختلف القارات، ولا سيما تلك التي قصدها النازحون واللاجئون كوجهة آمنة الى «دولة ثالثة». وهو ما ألقى بثقله بشكل متفاوت على العديد منها، باستثناء القليل من الدول الغنية التي تمكنت من استيعاب بضعة آلاف منهم.
وعلى عكس ما شهدته هذه الدول على ندرتها، فقد بقي ملايين النازحين مشرّدين في دول الجوار السوري، وانتقل عشرات الآلاف منهم إلى دول اوروبية، في ظاهرة كان يمكن معالجتها لولا الغزو الروسي لأوكرانيا وما تسبّب به من تهجير ونزوح لبضعة ملايين من أبنائها، الامر الذي ادّى الى ارتفاع كلفة المواجهة تجاه النزوح المزدوج، نتيجة الحربين معاً، على المستوى الدولي والقاري، إلى ما لا يمكن توقّعه من تطورات، وخصوصاً في تلك التي أجرت تعديلات كبيرة على موازناتها لصالح برامج التسلّح على حساب البرامج المختلفة، ومنها الإجتماعية والإغاثية، عدا عن توفير الدعم لأوكرانيا.
وبناءً على ما تقدّم، يعترف المراقبون العسكريون والديبلوماسيون، بأنّ ما حصل في سوريا كان أمراً واقعياً. فقد ثبت أنّ ما تعانيه دول الجوار السوري ولبنان خصوصاً، لا يُقاس بمعاناة اي دولة أخرى. وهو ما شكّل ظاهرة فُرضت عليه، ذلك أنّه لم يكن ممكناً وضع حدّ لتسرّب الآلاف من النازحين واللاجئين هرباً لأسباب انسانية واجتماعية، قبل أن يكون لها أي طابع آخر. فقد قذفتهم العمليات العسكرية التي انطلقت من الداخل السوري في اتجاه الحدود اللبنانية والاردنية والتركية، إلى حيث هم بشكل مأساوي.
لكن ما اتخذته السلطات الأردنية والتركية من إجراءات – على عكس ما اعتمدته السلطات اللبنانية المشرذمة والمفكّكة – فأبقت النازحين في مخيمات مقفلة، لم يتفلّت منها سوى من لديه الإمكانيات التي سمحت له بأن يقطن في أحياء راقية في المدن الأردنية والتركية، ليزاولوا أعمالهم في ظلّ عدم حاجتهم إلى أي مساعدة. حتى انّ بعض رجال الأعمال السوريين فكّكوا مصانعهم ونقلوا مؤسساتهم إلى دول الجوار، وأكملوا أعمالهم بما قالت به القوانين، إلّا في لبنان، حيث بلغت الفوضى ذروتها، فتجاوز عدد المخيمات العشوائية ما يفيض عن 1470 بقعة على مساحته، وتجاوز بعضها عدد سكانها «الأصليين».
وعليه، يضيف المراقبون، انّ ما شهده لبنان تجلّى بطريقة سلبية للغاية، نتيجة ما كان ولا يزال يعاني من انقسام سياسي، تزامن مع مرحلة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها ما بين 25 ايار 2014 ونهاية تشرين الاول 2016، وما رافقها من شلل حكومي وأزمات مختلفة، جعلت البلاد مفتوحة على كل أشكال السيناريوهات الخطيرة، من دون تقدير مخاطرها. كان ذلك قبل ان تتفلّت الامور بظهور بوادر أزمة مالية ونقدية تسببت بانتفاضة 17 تشرين 2019، ووصول «جائحة الكورونا» وانهيار التسويات السياسية التي جاءت بمنظومة الحكم قبل «أن يكتمل النقر بالزعرور» بتفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ومسلسل الأزمات الحكومية إلى حين الفشل في انتخاب الرئيس الخلف.
وبناءً على ما تقدّم، فقد عجز أهل الحكم الذين انغمسوا في أزماتهم الحكومية والمالية، عن مواجهة تردّدات النزوح، فتحوّل مادة المناكفات التي سهّلت عليهم الانتشار، ليسيطروا بطريقة غير مسبوقة على أسواق العمل والتجارة والصناعات الخفيفة والخدمات اليومية، في ظلّ دعم دولي وأممي وفّر لهم رغد العيش والعملة الخضراء التي يتنقلون بها بين لبنان وسوريا، من دون أي رقيب. كما امتهنوا تشكيل شبكات لتهريب المشتقات النفطية والمواد الغذائية والأدوية المدعومة بطريقة منظّمة، وصُف بعضها أنّها أعمال «جهادية» في مواجهة العقوبات التي فُرضت على النظام السوري وقطاعاته الأساسية، فانهارت مثيلاتها اللبنانية وانزلق سعر الليرة اللبنانية الى الدرك الذي هو فيه.
وعلى وقع مجموعة المؤشرات هذه، جاءت موجة النزوح المستجدة والمنظّمة، لترفع من مخاطر الجائحة، وسط إصرار دولي على معالجتها على الأراضي اللبنانية، بعد الحديث عن قيود فُرضت على المؤسسات الأممية في الداخل السوري، وعلى وقع خلو سدّة الرئاسة مرة اخرى منذ احد عشر شهراً، ونقاش حكومي عقيم عكس فقدان أي رؤية واضحة نتيجة تعدّد القراءات المنطقية منها والغوغائية بأكثريتها، وخصوصاً عندما تتجاهل الحقائق التي وضعت شروط النظام السوري لعودتهم، وعجز حلفائه عن تقديم أي عون مادي، تساوي في مراميها ما يريده المجتمع الدولي لا بل اصعب منها.
وتختم المصادر لتقول، انّ قرار الحكومة بعدم الانغماس في هذا الملف، ورؤية وزير الخارجية عبد الله بو حبيب المنطقية، يؤشران إلى صعوبة هذه المرحلة بالذات. فهو وقبل غيره كان شاهداً منذ فترة طويلة على أجواء الاتحاد الأوروبي بشكل خاص والمجتمع الدولي قبل وبعد حرب أوكرانيا، الذي ربط العودة بالحل السياسي في سوريا، وتثبت من عجز المجموعة العربية الخماسية التي شُكّلت في قمة الرياض بعد عودة سوريا الى الحضن العربي، من القيام بأي عمل يساهم بعودة النازحين الى بلدهم، وفقدان أي تأثير ايجابي لتفاهم بكين بين السعودية وإيران على الوضع في لبنان وسوريا، قبل اقفال ملفات اليمن وما بينهما من ملفات شائكة، في مواجهة نظريات يُعتبر بعضها «وهمياً» لئلا يُقال بأنّها «سخيفة». كالقول انّ تفاهماً أُنجز بين وزير المهجرين في لبنان ووزير داخلية سوريا، يكفل إعادة 180 الفاً منهم كدفعة اولى في اقل من شهر، و15 ألفاً بشكل شهري ودوري، في وقت تدفق فيه الآلاف من النازحين الجدد بشكل منظّم، فأسقط مشاريع اقل ما يُقال فيها انّها «خنفشارية».
وختاماً وبناءً على كل ما تقدّم، فإنّ ما يمكن قوله انّ الملف بتعقيداته لن يرى حلاً لأي عقدة من عقده، إن بقيت الأجواء الدولية على ما عليه، وبقي البلد بلا رئيس للجمهورية يُدار بحكومة تصريف أعمال ومجلس نيابي يعمل على القطعة. وإلى حين معالجة هذه الظواهر الغريبة، سيبقى ملف النازحين عالقاً بين «مطرقة العجز» و«سندان الفشل» وكلاهما يؤديان الى نتيجة واحدة.