عاشت المناطق اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصاً لحظات توتّر حقيقية، على وقع استفزازات مناصري الأسد من النازحين الناخبين الزاحفين إلى السفارة السورية في اليرزة لانتخابه “بالدم والروح”، ما حدا بالشباب الغاضبين إلى التصدي لهم مع الأهالي الذين استفزهم هذا المشهد ونزلوا دفاعاً عن كرامتهم وللقول: “لا يستطيع أحد التنمير علينا”.
في لحظة معينة أعاد النظام السوري تذكير اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً بما ارتكبت يداه في لبنان، وذكّرهم بأنه هو من دمّر زحلة والأشرفية وقنات، وقصَف المتن وكسروان وجبيل والبترون وصيدا وطرابلس، وهجّر الأهالي من مناطق شمالية عدّة، وقتَل الآلاف، ولا يزال حتى الساعة يُخفي المئات من عناصر الجيش اللبناني والمدنيين اللبنانيين في معتقلاته، ويتّكل على أنّ حليفه العهد العوني باع قضيتهم ولم يطالب بهم، على رغم أن الجنود فُقدوا في أرض المعركة عندما كان العماد ميشال عون قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكرية ويريد “تكسير رأس حافظ الأسد”.
وصبّ حلفاء النظام السوري وعلى رأسهم “التيار الوطني الحرّ” جام غضبهم على “القوات اللبنانية” نتيجة الردّ على استفزازات مناصري الأسد في عمق المناطق المسيحية، وذهب البعض الآخر من حلفاء النظام إلى المقارنة بين الإنتخابات الرئاسية السورية في لبنان وبقية الدول، أو عدم التعرّض للناخبين اللبنانيين في دول العالم أثناء الإنتخابات النيابية عام 2018.
وسها “عمداً” عن بال هؤلاء أنّ الأذى الذي تسبّب به النظام السوري للّبنانيين يفوق بمئات المرّات محاربته إسرائيل، كما أنّ النظام السوري لم يقصف ويدمّر ويقتل في الدول العربية الأخرى أو في أوروبا مثلما صبّ كل إجرامه على المسيحيين واللبنانيين.
ونتيجة “جردة” كل إرتكابات النظام السوري، تسقط كل تهم العنصريّة التي سيقت بحق شباب “القوات” واللبنانيين المنتفضين على الأسد وكل “جوقته”، التي يعتبرون أنها تضم تابعين وردّاحين ودجّالين ومتلوّنين وأفّاقين وفاسدين وفاسقين، ومجنّسين ومتلبننين ومتسورنين وتجّار دنيا ودين في لبنان وفي سوريا وفي فلسطين. فاذا ساعدت “القوات” النازح السوري يقول عنها محور الممانعة وإعلامه إنها تساعد “الدواعش”، وإذا ردّت على الإستفزازات في المناطق المسيحية يُقال عنها “عنصرية” و”فطاحل” آخر زمن “نازية”، فيما الحقيقة أن الشباب أرسلوا رسالة شديدة اللهجة، وفي وقتها و”بنت ساعتها” مفادها أن “لبنان ليس مكسر عصا لنظام الأسد وحلفائه”.
وأمام الدفاع المستميت من قبل “التيار الوطني الحرّ” وحلفاء الأسد عن الإستفزازات، استعاد الناشطون عبارة كان قد ردّدها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وتقول: “لا يوجد في لبنان حلفاء لسوريا بل عملاء”، وإذا تعمّقنا أكثر في المشهدية ندرك لماذا هذا الإستهداف لـ”القوات” بشكل خاص.
كان السيناريو مرسوماً بدقّة من قِبل محور الممانعة في لبنان، التحضير بدأ منذ أكثر من شهر لهذا الحدث الذي يعتبرونه جللاً، وركّز “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” على صورة الحشود التي تتدفّق نحو السفارة السورية في اليرزة، وذلك للقول إن الأسد يحظى بشعبية كبيرة وأن لبنان في صلب محور الممانعة وعاد النظام أقوى، في حين أن لرئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل حسابات أخرى وأهمّها القول للمسيحيين إن خياراته الاستراتيجية هي الصائبة والأسد هو الأقوى، ولا يهمّ إذا فرضت علينا عقوبات أميركية وأوروبية، وإظهار المناطق المسيحية على أنّها مع الأسد، وخصوصاً كسروان عاصمة الموارنة والأشرفية ذات الرمزية التاريخية.
لكن المفاجأة أتت كبيرة، وكبيرة جداً، فلم يتصوّر محور الممانعة بشقّيه المسيحي والشيعي أن ردّ الفعل سيكون بهذه القوة والشراسة، وأن هناك عصباً قوياً في المناطق المسيحية لا يزال معادياً للأسد وحلفائه ويتحرّك ولا يأبه بكل ما سيقال، وبالتالي سرقت كسروان المشهدية من اليرزة وباتت الأنظار تتوجّه إلى الذوق ويسوع الملك ونهر الكلب وجل الديب والأشرفية، والتي أظهرت أن الرأي العام المسيحي في مكان آخر غير المكان الذي يريد باسيل و”حزب الله” أخذه إليه، وأن هناك قوّة قادرة على التحرّك ساعة يكون هناك خطر.
والملفت أيضاً أن تحركات كسروان لاقت صداها في معظم المناطق السنية خصوصاً في طرابلس، فنزل شباب طرابلس السنّة الغاضبون يحيّون شباب كسروان و”القوات اللبنانية”، ولم تقتصر المشهدية على “البالما” بل داخل باب التبانة التي ذاقت الأمرّين من إجرام نظام الأسد، وانتفضت لكرامتها.
أفسدت “القوات اللبنانية” وشباب كسروان والأشرفية وبقية المناطق “مسرحية” الأسد وحلفائه، لكن الغريب أن تلك الباصات التي مرّت في كسروان انطلقت بقسمها الأكبر من عكّار وطرابلس ولم تواجه أي اعتراض من قِبل تيار “المستقبل” ما يدفع إلى التساؤل “لماذا يُهادن الرئيس سعد الحريري إستفزازات الأسد في عقر داره؟”.
وإذا كان رئيس الحزب “التقدّمي الإشتراكي” وليد جنبلاط لم يُقدم على أي خطوة إعتراضية على الأرض خوفاً من وضعيته في الجبل وردّ فعل “حزب الله”، إلا أنه لا يوجد أي مبرّر لوقوف الحريري مكتوف اليدين إلاّ إذا كان الأسد لم يعد يستفزّه، أو أنه لا يريد إغضاب “حزب الله” الذي رشّحه لرئاسة الحكومة وبات حليفه الأول، بعدما اعترف جنبلاط مع الزميل مارسيل غانم أن السعودية تضع “فيتو” على رئاسة الحريري للحكومة ولن يستطيع التأليف.
وفي قراءة أخرى أنّ الحريري يراقب تطوّر العلاقات السعودية – السورية ولا يريد إغضاب المحور السوري، فأي خطوة مماثلة لما فعله شباب كسروان كانت كفيلة بإغضاب “حزب الله” ومن خلفه حلفاء سوريا، وهو اليوم بغنى عن “مشكل” من هذا النوع. رغم ذلك، لم ينتظر شباب طرابلس أي حسابات سياسية بل تحرّكوا عندما شاهدوا رفاقهم في كسروان يواجهون من دمّر بلدهم، وبالتالي أثبتت هذه الأحداث أن هناك رأياً عاماً عابراً للمناطق والطوائف يرفض الخضوع وعودة الوصايات ويريد بناء لبنان الجديد.