في كلّ مرّة كان النظام السوري على حافة السقوط النهائي، كانت هناك قوة خارجية تهبّ لنجدته وذلك بغية تمكينه من استكمال المهمة الموكولة اليه والتي تتمثل بالانتهاء من سوريا التي عرفناها.
بين العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية في سوريا، وهي الثورة الشعبية الحقيقية الوحيدة في المنطقة، سارعت ايران الى انقاذ النظام غير مرّة، بالمال والسلاح والرجال، وذلك قبل ان يأتي دور روسيا في عملية الانقاذ.
فعلت ايران ذلك لاسباب مرتبطة بمصلحتها في بقاء نظام اقلّوي في البلد من جهة والى ان سوريا في عهد بشّار الأسد، وقبله في عهد والده، كانت الجسر الى الاستثمار الاهمّ لديها خارج أراضيها من جهة اخرى. هذا الاستثمار متمثّل في «حزب الله» اللبناني الذي تحوّل مع مرور الوقت الى لواء في «الحرس الثوري» الايراني يعمل في لبنان وخارج لبنان، وصولا الى اليمن والعراق تحديدا، مرورا، طبعا، بسوريا نفسها.
كانت المهمّة الاولى لـ»حزب الله» في السنوات الاولى من نشأته تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان ووضع اليد عليه وعلى حركة «امل». نجح في ذلك الى حدّ كبير. نجح أيضا في تغيير طبيعة مناطق معيّنة، بما في ذلك بيروت والضاحية الجنوبية التي هجّر منها مسيحييها، فيما اقام قواعد دائمة له في الاحياء السنّية للعاصمة اللبنانية. هل ينجح «حزب الله» في مرحلة ما بعد اندلاع الثورة السورية في تغيير طبيعة دمشق والمناطق المحيطة بها في اطار المشروع التوسّعي الايراني الذي يستهدف دولا عدة على رأسها العراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن البحرين طبعاً.
سقط النظام السوري منذ ما قبل اندلاع الثورة الشعبية وذلك لاسباب متعلقة بتكوينه من داخل. كلّ المحاولات التي قام بها حافظ الأسد، بما في ذلك المجازر التي ارتكبها في حلب وحماة ومناطق سورية أخرى، لم تكن سوى محاولات يائسة بحثاً عن معادلة جديدة تضمن استمرار النظام.
كان ذلك بحثاً عن المستحيل قبل أيّ شيء آخر في بلد لا يمكن فيه إيجاد منطقة واحدة ليست فيها أكثرية سنّية. طوّق حافظ الأسد المدن الكبيرة، التي كان يكره أهلها، بجيوب علويّة. تحالف مع سنّة الريف انتقاماً من سنّة المدن. اقام ما يسمّى حلف الاقلّيات الذي سعى الى ادخال مسيحيي لبنان فيه، لعلّ ذلك يقضي عليهم نهائياً ويجعلهم مجرّد خدم عند علويي سوريا، كما حال عدد لا بأس به من مسيحيي سوريا وأبناء اقلّيات اخرى.
من حسن الحظ ان قسماً كبيراً من المسيحيين في لبنان، يرفض اعتبار نفسه اقليّة في حاجة الى حماية. لذلك، رفض هذا القسم من مسيحيي لبنان المنطق الذي سعى النظام السوري الى فرضه. بقي متعلّقا بصيغة العيش المشترك اللبنانية على الرغم من كلّ الكوارث التي حلّت بالبلد، في مقدّمها كارثة اسمها مهووس برئاسة الجمهورية يدعى ميشال عون.
قبل سنة، هبّت روسيا لانقاذ بشّار الأسد من منطلق حسابات خاصة بها، بينها ما هو منطقي، مثل المشاركة في الحرب على الإرهاب الممثل بـ»داعش» وما شابهه، وبينها ما هو اقرب الى الخيال من ايّ شيء آخر من نوع البناء على ما يمثله النظام السوري وما بقي من مؤسساته في مقدّمها الجيش.
جاء وصول القاذفات الروسية الى قاعدة حميميم لمنع تحرير الثوار الساحل السوري الذي اقتربوا منه ومن الجبال القريبة منه التي تعتبر معقل العلويين. نجحت روسيا في إبقاء بشّار الأسد في دمشق ولكن ما العمل في المدى الطويل؟ هل فلاديمير بوتين من السذاجة الى حدّ يدفعه الى الاعتقاد انّ النظام السوري قابل للحياة وانّه يمكن البناء عليه؟
بعد سنة على الدخول الروسي المباشر على خط الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، آن أوان الاعتراف بانّه كلما طالت هذه الحرب، كلما زادت التعقيدات السورية. وجدت تركيا نفسها مضطرة الى التدخل العسكري المباشر في سوريا بعدما باتت الورقة الكردية تهدّدها. كانت النتيجة الوحيدة للدعم الاميركي لاكراد سوريا، بحجة انّهم يحاربون «داعش»، جرّ تركيا الى المستنقع السوري الذي سقطت فيه قبلها كلّ من ايران والميليشيات المذهبية التابعة لها… وروسيا.
بعد خمس سنوات ونصف سنة على اندلاع الثورة السورية، وبعد القاء ايران بثقلها وثقل ميليشياتها في مواجهة الشعب السوري، وبعد مرور سنة على التدخل المباشر لروسيا، وبعد خروج تركيا من موقف التزم تفادي التدخل العسكري المباشر، لم يبق سوى سؤال يصلح طرحه. هل كانت الإدارة الاميركية تعرف منذ البداية ان ليس في الإمكان البناء على بقايا مؤسسات الدولة في سوريا وان الحل الوحيد يتمثل في ترك جميع الأطراف المعنية تتصارع في الداخل السوري مباشرة او بالواسطة؟
الجواب عن مثل هذا السؤال انّه لم يكن هناك في أي وقت سياسة أميركية واضحة تجاه سوريا. في غياب السياسة الاميركية، هناك الهدف الاميركي الواضح كلّ الوضوح. هذا الهدف الاميركي هو إسرائيلي قبل ايّ شيء آخر. كلّ ما يجري في سوريا يخدم إسرائيل اوّلاً وأخيراً. كلّ ما قام به النظام السوري منذ تسليم الجولان في العام 1967، انّما يصب في المصلحة الإسرائيلية. حتّى توريط هذا النظام للفلسطينيين في حرب لبنان، وهو توريط كان خدمة كبيرة لإسرائيل التي عملت في وقت لاحق على إيجاد شروخ في لبنان لم يتمكن اللبنانيون من معالجة آثارها حتّى يومنا هذا. ربّما لن يتمكنوا من ذلك يوماً!
كلّ ما شهدناه الى اليوم هو تدمير ممنهج لسوريا. ما عجز عنه النظام السوري في لبنان حين استخدم الفلسطينيين ثمّ «حزب الله» في كلّ ما من شأنه تدمير البلد، يبدو انّه سينجح فيه في سوريا. من يراهن على نظام مذهبي لا يعرف غير الهدم، انما يراهن على سراب، لا اكثر ولا اقلّ. الرهان الحقيقي هو على تركة اسمها سوريا. دخلت تركيا على الخط أخيرا لتقول ان لا توزيع لهذه التركة في غيابها. ليس صدفة ان دخولها جاء بعد مصالحة بين رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين وبعد تطبيع العلاقات التركية – الإسرائيلية.
كيف ستوزع التركة السورية؟ لا يزال من الباكر تحديد كيف سيجري توزيع الحصص. لكنّ هذا لا يعني ان في الامكان تجاهل امر آخر. هذا الامر هو البحث الحقيقي الدائر حالياً هو عن الطرف الذي سيتولى حماية امن إسرائيل بعد توزيع التركة السورية. سيكون الدور الاميركي في مرحلة البحث عن هذا الطرف اكثر حيوية مما هو عليه الآن. انّه الامر الوحيد الذي يبدو مضموناً وسط ما تمرّ فيه سوريا هذه الايّام…