صدقت موسكو: ليس هناك أوضح من نتائج «التعاون» الأميركي – الروسي في سوريا! بل ربما لا يوجد مثيل لذلك في أي نقطة جغرافية أو سياسية أخرى مدرجة في لائحة «الاهتمامات» المتبادلة للطرفين.
ولا يمكن أي مراقب، أن يُجادِل في صحّة المثال السوري ذاك. وفي اعتباره علامة مضيئة فوق رقعة سوداء تشتمل على نقاط «النزاع» بين موسكو من جهة والغرب (والأميركيين أساساً) من جهة مقابلة. بدءاً من جورجيا ودول البلطيق (على الموجة الهادئة حتى الآن) وصولاً إلى القرم وأوكرانيا ودور «الناتو» و«حدوده»، و«وضع» الاتحاد الأوروبي ومعناه وفحواه! وما بين ذلك من عناوين فرعية تطال قضايا راهنة بعناوين قديمة مثل «حقوق الإنسان» ومشتقاتها في ضوء الممارسات الروسية في هذا الشأن، داخل روسيا وخارجها، من لندن إلى أثينا إلى غيرهما.
سفير روسيا في واشنطن أناتولي أنتونوف اشترك في النقاش الداخلي الأميركي الصاخب المندلع منذ انتهاء قمّة هلسنكي، من باب «الرد» على الحملة التي يتعرّض لها الرئيس دونالد ترامب جرّاء أدائه «المتخاذل» و«الضعيف» أمام نظيره فلاديمير بوتين.. لكن المفارقة هي أنه (أنتونوف) قدّم المثال السوري (غير المطروح!) في سياق المحاججة في قضية أخرى هي تدخل بلاده في الانتخابات الرئاسية الأميركية! وكأنه يختصر الجدال ويذهب إلى الفحوى الأساسي والعام الذي يهمّ المجتمع السياسي الأميركي، والذي هو إسرائيل و«أمنها الاستراتيجي» دائماً، وإيران وأدوارها ومخاطرها راهناً!
وكأنّه يقول، إن تفاهم ترامب مع بوتين في هذين الشأنين يكفي للتغطية على أي نقصان آخر. أو أي خطأ حصل. أكان ذلك يتصل بأداء ترامب في قمّة هلسنكي أو بالاتهامات الخاصة بالتدخل في الانتخابات الرئاسية.. المهم هو أن البلدين يقفان على المنصّة ذاتها إزاء إسرائيل وإيران، وليس على منصّتين متقابلتين كما كان الحال أيام زمان! ومَنْ لا يصدّق ذلك، عليه النظر سريعاً (من دون أي تمعّن!) إلى الخارطة السورية وما سُجِّل عليها، وخصوصاً منذ أواخر العام 2015 حتى اليوم!
وفي ذلك لا يكذب السفير أنتونوف على الأميركيين ولا يبلف أحداً.. وربما لو شعر بالحاجة إلى المزيد من الشرح والتوضيح، لجاءت إسرائيل و«دعمت» موقفه بغارة جوّية جديدة على قاعدة إيرانية أو قافلة سلاح لـِ«حزب الله».. أو مخزن صواريخ وذخائر في عمق سوريا وليس بالقرب من الحدود الجنوبية فقط!
ثم أكثر من ذلك: يمكن للسفير الروسي أن يُخرس كل منتقدي ترامب من خلال «الإضاءة» على أداء بوتين بالقرب من سوريا.. إزاء «القضية الفلسطينية» (إذا كان المصطلح لا يزال مُستخدماً في دوائر الخارجية الروسية!) ويستطيع (مثلاً) أن يُشير إلى أنّ موسكو غائبة تماماً عن أي تطور ميداني أو سياسي أو تاريخي في هذا الشأن! ولا تعتبر نفسها معنية حتى بإصدار بيان إدانة أو استنكار لاستهداف الطيران الحربي الإسرائيلي مدنيين في غزّة! أو لاستكمال مصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفّة الغربية ومواصلة الاستيطان بنَفَسٍ مسعور! وصولاً إلى الحدث الأخير المتمثل بإقرار الكنيست «قانون أساس القومية» الذي لم يعد يوجد مثيل لمعانيه العنصرية في أي زاوية من هذا العالم!
سفير روسيا في واشنطن يُخاطب النخب السياسية والإعلامية الأميركية بلغة «عميقة» واستراتيجيّة، ومن باب الصديق الذي يفهم أكثر منهم.. ولسان حاله يكاد يسألهم: لماذا كل هذا الهيجان طالما أنّ ما يجمعنا صار أكبر وأمتن وأهم من أي قضية «تافهة» أخرى؟!