لا شيء يتخطّى فلتان الواقع الأمني والنقدي والسياسي اللبناني الدّاخلي، إلا التسيّب الحدودي شمالاً وشرقاً. التهريب على أنواعه من أسلحة وبضائع ومخدرات، وأخطرها البشر. فانتقلت حركة «الترانزيت البشري» من مرفأ بيروت الشّرعي إلى المعابر البرية غير الشرعية، متمّمةً بذلك المبدأ الاقتصادي الحرّ الشهير «دعه يعمل، دعه يمرّ»، الذي برز في خمسينات القرن الثامن عشر مع تعديل «مافيويّ» طفيف «دعه يدفع، دعه يمرّ». وتحوّلت الأنظار والاهتمامات الرسميّة والأهليّة، من كيفيّة عودة النازحين لديارهم، إلى منع المتسلّلين الجدد إلى بلادنا في غزوةٍ لم يشهد لها لبنان مثيلاً عبر تاريخه، حيث «يستضيف» عنوةً ، أكبر عدد من اللاجئين والنازحين بالنسبة للفرد الواحد حول العالم. إذ لا تُسجّل في واقع الدول والأمم ذات السيادة، حدود مستباحة بهذا الشكل الفاضح والوقح، إلّا في مجاهل وصحارى أفريقيا والمناطق النائية.
من النهر الكبير الجنوبي شمالاً وصولاً إلى السلسلة الشرقية، يبلغ طول الحدود البريّة اللبنانيّة – السوريّة حوالى 375 كيلومتراً، منها ما يقارب 100 كلم شمالاً و210 شرقاً و65 كلم في منطقة مزارع شبعا. تتميّز طبيعتها بتنوّع جغرافي، سواء النهرية في سهل عكّار حيث يمكن اجتياز النهر الكبير في أماكن كثيرة، ما يسمح بانتشار المسالك ومعابر التهريب، أو السهليّة في منطقة مشاريع القاع حيث يمكن سلوك الطرق الزراعيّة الحدوديّة بواسطة سيارات رباعيّة الدفع أو شاحنات صغيرة تؤدّي إلى عمق الأراضي اللبنانيّة، أو الجبليّة الوعرة الواقعة بين الهرمل وجبل عكار (وفق تقارير رسمية).
لكلّ معبرٍ «ديك»
على الطريقة اللبنانية، حيث لكلّ مرفق أو مؤسسة رديف، كالهرباء والإنترنت وسعر الصرف، كذلك المعابر الشرعية الخمسة (العريضة والعبوديّة والبقيعة، في الشمال، جوسيه – القاع والمصنع في البقاع)، لها معابر رديفة غير شرعية، مسمّاة على أسماء «أبطالها» أو ألقابهم، تتراوح بين 10 و15 معبراً معتمدة منذ زمنٍ ومعروفة من قبل الجميع، خصوصاً من الجانب السوري. وإذا كانت الحدود من الجهة اللبنانية مبعثرة وغير مضبوطة أمنيّاً وعسكريّاً، فالواقع يختلف في الشطر الثاني في ظلّ انتشار فرق الهجّانة السورية أو ما يعرف بـ»الفرقة الرابعة» المشرفة على عمليات التهريب مقابل رشاوى ومبالغ مالية. فالتنقّل داخل الأراضي السورية يستوجب دفع أموال على الحواجز فكيف بالأحرى على الحدود؟ وتنتشر هذه المعابر من النهر الكبير مروراً بمنطقة أكروم وصولاً إلى الهرمل والسلسلة الشرقية، حيث تتقلّص وطأة النزوح هناك نظراً إلى التواجد العسكري لـ»حزب الله» والاعتبارات الأمنية إضافة إلى تغيير ديموغرافي شهدته تلك المناطق الخاضعة لسيطرة «الحزب»، مع العلم أن بعض العشائر والعائلات القريبة منه، استغلّت هذا الواقع لتنشط بدورها في عمليات التهريب وفتحت مسالك سمّيت بأسمائها، وفق مصادر ميدانية.
تجدر الإشارة إلى أنّ الشريط الممتد من نقطة المصنع جنوباً وحتى جرود القاع في أقصى شمال شرقي لبنان، يخضع لمراقبة شديدة من قبل الجيش اللبناني، وقد ساهمت أبراج المراقبة التي أنشئت بتمويل وتجهيز بريطاني منذ سنوات في ضبط كبير لعمليات التهريب إلى حدّ ما. أمّا عند الحدود الشمالية، فالوضع أكثر تعقيداً، نظراً إلى تضاريسها السهلة ولا سيّما على امتداد النهر الكبير، إذ تنشط العمليات بشكل مفضوح، والمعابر معلومة وممهورة بالأسماء أيضاً، نذكر منها على سبيل المثال: معبر شهيرة (وأبنائها)، معبر عبيدان، معبر أبو تركي، معبر العويشات، معبر الواويات، معبر حنيدر ومعبر الهيشة.
ويتراوح عدد المهرّبين بين 50 و60 شخصاً، تعاونهم شبكة من الأشخاص في القرى والمناطق اللبنانية الداخلية في إخفاء النازحين وتهريبهم بسيارات وشاحنات. في المقابل يُشكّل حاجز شدرا المعزّز عسكريّاً وأمنيّاً والذي يبعد عن الحدود حوالى 15 كيلومتراً عائقاً أساسيّاً أمام حركة التهريب، لكن المشكلة تكمن في أن بعض النازحين أو الأفراد منهم، يلتفّون حوله عبر ممرّات جبلية سيراً على الأقدام، ما يُعطّل إلى حدّ ما فعالية الحاجز طالما أنّ الحدود «فلتانة».
إضافة إلى ذلك، تشير مصادر مطلعة إلى أن أعداد العسكريين التابعين لفوج الحدود أو القوّة المشتركة، لا تكفي لتغطية هذه المنطقة بشكلٍ كاملٍ. إلى ذلك، يتمّ استنزاف جهود الجيش في مراقبة مخيمات النازحين والتجمعات السكّانية في القرى والبلدات. في السّياق، تكشف المصادر أن بعض العناصر الأمنية متهم بأنّه متورّط في تسهيل عمليات النزوح غير الشرعي مقابل مبالغ مالية، فالفساد ليس فقط في الإدارات والمكاتب.
وأضافت أنّ بعض النازحين يمرّ بجانب مراكز حدودية تَبعد عشرات الأمتار عن الحدود من دون أن يتمّ توقيفهم. ما يطرح علامات استفهام عديدة حول مدى جديّة السلطات اللبنانية في معالجة هذه القضية، وتسأل جهات معنية: هل هناك قرار بتسهيل عمليات النزوح؟ أليس إعلان العجز الرسمي يصبّ في هذا الإتجاه وانعكاسه سلباً على دور ومعنويات الأجهزة الأمنية التي تتعرّض في بعض الأحيان لضغوط رسمية وحكومية، تحت حجّة «عدم تخريب علاقات لبنان مع الدول والجهات المانحة»، يُذكر أنه من الشروط الأساسية لصندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان، هو إغلاق المعابر غير الشرعية مع سوريا.