اليوم، وفي شكل متتابع، تتضح ملامح الخطة الغربية العامة حيال سورية الملتهبة، وفي طليعة الخطة يأتي عنوان سلوك الولايات المتحدة الأميركية، التي افترضت لنفسها قيادة السياسات، واحتفظت بمفاتيح القرارات فيها. ما بات معلوماً، هو طابع الإحجام الذي ميَّز السلوك الأميركي في سورية، عندما تعلَّق الأمر بسياسة التدخل المناسب في مجريات الميدان السوري، وفي انعكاسات اليوميات الميدانية على كل الأزمة، وعندما تعلق الأمر أيضاً بطموح بعض حلفاء السياسة الأميركية للعب دور متدخل فاعل، يتجاوز سياسة الانتظار والإحجام التي مارسها صانع السياسة في البيت الأبيض، وفي سائر مؤسسات القرار الأميركية.
لقد قام دور المسؤولين الأميركيين على كبح حماسة شركائهم الغربيين، وعلى منع تطوير أدوار حلفائهم الإقليميين، وحددوا ما هو مسموح وما هو ممنوع، كلما أثيرت مسألة تسليح الفرقاء الذين ينازعون النظام السوري في السياسة، ويقاتلونه في الميدان.
مهما قيل في سياسة أميركية كهذه، فإن العنوان العام يجب ألا يضلّ عن رؤية الحسابات المصلحية على حقيقتها، مثلما يجب ألا ينسب إلى الرئيس الأميركي أو سواه، العجز عن اتخاذ القرار في الشأن السوري، هذا لأن القرار متخذ من قبله، وهو يقضي بإدارة المصالح الأميركية العامة وحفظها، بطريقة غير مباشرة، أي برعاية الصراع ومتابعة أحداثه، ومراقبة المتدخلين فيه وتقدير النهاية المرجحة له، أو الأكثر ملاءمة لإضاءة الشارة الحمراء الكفيلة بوقفه، ولا يكون الوقف إلا وفق معادلة عامة تكون بنودها قد بلغت درجة من النضوج والوضوح، بحيث تتكفل المفاوضات الأخيرة بتظهيرها وبلورتها، فتعطي كل ذي متدخل ما يتجاوز دوره، أو ما يعادله، أو ما يقل عنه قليلاً، وتسمح بملء الخانات الشاغرة التي تركتها السياسة الأميركية لسواها، بحيث يكون الملء متناسقاً مع «المايسترو» الدولي الأميركي أولاً، ولا يهم حينها ما إذا كان النشاز العام من حصة دول الإقليم، ولكل دولة بمقدار.
أول ما يقال في الانسحاب الأميركي من ميدان الفعل المباشر في سورية، هو أنه ليس انسحاباً، بل هو تدخل بالمراقبة وبالإدارة، والنقطة الثانية التي يمكن إثارتها في معرض عدم الانسحاب هذا، هي أن الإدارة الأميركية ترضى، أو هي اختارت رضا مشاركتها في قيادة شؤون العالم، بعد أن فشلت سياسة الأحادية القيادية التي اعتمدتها، أو صادرتها لنفسها، أيام الحقبات «البوشية»، وفي سياق مشاريع الشرق الأوسط الكبير، والحرب على الإرهاب، ونظرية الفوضى الخلاقة، وحروب تصدير الديموقراطية إلى الدول التي تحتاجها أرجاء المعمورة، وكانت للعرب منها حصة مريرة الحصاد.
بناءً على ما تقدم، ليس غريباً القول إن سائر المتدخلين والناشطين في الشأن السوري ينعمون بمظلة سياسة المراقبة الأميركية، مراقبة من بعد ومن قرب، لكن قربها وبعدها أقرب إلى حالة متابعة جمع المعلومات وتحليل البيانات، وذلك كله في انتظار تقرير خطوة سياسية مناسبة، ودائماً وفق حسابات المسؤول الأميركي، وليس استجابة لحماسة أو استغاثة أو نصيحة من يجهرون بشراكة سياسية مع الولايات المتحدة، أو من ينسبون إليها دوراً إنقاذياً، أو قيادة ديموقراطية للعالم الحر الذي صار أقلَّ حرية، ولعله بات غير حرّ إذا ما عُرض على مقاييس الحرية والإنسانية وكل مفاهيم «الفردية» المنسوبة إلى القيم الرأسمالية.
في المدى المباشر، ليس لأحد أن يتوقع ماذا ستكون عليه صورة الغد السوري، وكيف ستكون صورة التوازنات الإقليمية والعربية. ولأن الأمر أمر صراع، ولأن الوقت ثمين في سياق سياسات الانتظار والسماح والمراقبة، فإن الطرف الروسي يدرك ما يريد، وهو يطور هجومه بالتناسب مع طموحه إلى لعب دور دولي مجدداً، بغض النظر عن حجم هذا الدور، إذ يكفيه الانتساب إلى نادي القرار الدولي، وبعدها تتكفل الميادين والسياسات بتحديد الأحجام. على الخط ذاته، يعرف السياسي الإيراني ماذا يريد، وهو لم يتأخر في الذهاب إلى تحقيق ما يريده، فكان أول المبادرين في سورية، وفي أكثر من بلد عربي، ونجح في هزّ الاستقرار وتشتيت الجهد، فما سمح للعرب بأن تكون الساحة السورية ساحة إشغالهم الوحيدة. والحكم التركي، ظلَّ أكثر المكبلين بقيوده الداخلية، فالمسألة الكردية تشغله في داخل بيته، ولا يوافقه حلفاؤه على سياساته حيالها، وعدم الموافقة، ظلَّ قيداً «أطلسياً» ما زال يكبح التطلع التركي إلى لعب دور متدخل أكبر خارج حدوده.
وسط هذه المعمعة، يدفع العرب الثمن الأكبر من أمانهم واطمئنانهم إلى الغد، فهم يشعرون بالتخلّي الغربي، وعندما يبادرون لا يثقون بنيات ومواقف وردود فعل من يفترض أنهم الحلفاء، هذا كله يعطي مؤشرات خطيرة الى حقيقة ما يمكن أن يكون عليه المستقبل في المنطقة وفي البلاد العربية، التي يجب ألا تسمح باستفرادها بلداً بلداً، وألا تعطي غيرها المبادرة في إدارة ميادينها، وألا تكون ميدان صراع لما يظهر أنه نسخة هيمنة مختلطة جديدة.