خلال ما يقارب ثلاثة أرباع القرن تفصل عن الاستقلال عن فرنسا في 17 نيسان (أبريل) 1946، وحتى تاريخ بدء الأزمة السورية مع درعا 18 آذار (مارس) 2011، هناك شعور عام عند غالبية كبرى من السوريين بأن القميص السوري ضيق عليهم. بسبب هذا كان الحزب القومي السوري ضعيفاً بين مواطني الدولة السورية، وكان أقوى منه حزب الشعب الذي سعى بالأربعينات والخمسينات إلى (وحدة الهلال الخصيب مع العراق) و(جماعة الإخوان المسلمين) الذين سعوا إلى رابطة إسلامية ولم يكونوا في حالة تشنج ضد العروبة بخلاف نظرائهم في القاهرة، كما كان أقوى الجميع في سورية هم العروبيون عبر طبيعتهم الناصرية والبعثية، وهم عملياً من حكم دمشق منذ يوم 22 شباط (فبراير) 1958 مع فاصل الانفصال القصير عن مصر بين يومي 28 أيلول (سبتمبر) 1961 و8 آذار 1963 الذي كان واضحاً ضعف قاعدته الاجتماعية، وليأتي العروبيون ويحكموا من جديد عبر تحالف ناصري- بعثي ثم مع انفراد بعثي بالسلطة منذ يوم 18 تموز (يوليو) 1963.
على الأرجح أن هذا يعزى إلى أن المملكة السورية المعلنة في آذار 1920، قبل أن يأتي الفرنسيون ويقضوا عليها بعد أربعة أشهر، كانت مبنية عبر الشريف حسين وابنه فيصل على مشروع «الثورة العربية الكبرى» المعلنة ضد العثمانيين في 10 حزيران (يونيو) 1916 الذي بني على طموح إقامة دولة عربية تمتد من جبال الأناضول حتى خليج عدن ومن البحرين المتوسط والأحمر حتى جبال زاغروس. اكتفى فيصل بمملكته عام 1920 بإعلان سلطته على (سورية الكبرى بأجزائها الأربعة) ولكن هذا كان على الورق فقط حيث أتت الوقائع لتقول بأن هناك (دولة لبنان الكبير) بعد أربعين يوماً من معركة ميسلون (24 تموز 1920) ثم «إمارة شرق الأردن» في آذار 1921، وكان الأخطر «وعد بلفور في فلسطين» الذي بدأ التنفيذ البريطاني له منذ دخول الجنرال أللنبي إلى القدس في كانون الأول (ديسمبر) 1917. استسلم فيصل بن الحسين لهذا المصير من خلال قبوله بأن يكون ملكاً مسنوداً من لندن على العراق في آب (أغسطس) 1921، ولكنه هو والعائلة الهاشمية في بغداد وحتى يوم 14 تموز 1958 لم يكفوا عن السعي إلى وضع دمشق وبغداد تحت عرش هاشمي واحد.
زاد هذا النزوع السوري العام من خلال الاقتطاعات الفرنسية لتركيا الذي أنقص مساحة سورية المنتدبة فرنسياً منذ يوم 25 تموز 1920 وهو ما يمكن مقارنته بين سورية تحت الانتداب الفرنسي في معاهدة سيفر (آب 1920) بين فرنسا وتركيا حيث تمتد الحدود السورية- التركية إلى خط طرسوس- غازي عنتاب- أورفة- ماردين- جزيرة ابن عمر، وصولاً إلى معاهدة لوزان (تموز 1923) التي خفضت تلك الحدود حتى الحدود الحالية، ثم أعطت فرنسا لواء اسكندرون في أواخر الثلاثينات لأنقرة الذي سلخته عن حدود معاهدة لوزان المعقودة أيضاً مع أنقرة، في مخالفة صريحة من فرنسا لصك الانتداب الذي ينص في «عصبة الأمم» على حفاظ الدولة المنتدبة على حدود الأرض المنتدبة عليها وعدم التصرف بها مع الغير. لم تكتف باريس بمخالفة صك الانتداب من خلال اقتطاع جزء من سورية للغير بل حاولت تجزئة الأرض السورية إلى دول متعددة (دمشق- حلب- دولة جبل الدروز- الدولة العلوية… إلخ). فشل هذا المشروع الفرنسي التقسيمي عبر تراجع باريس عنه في معاهدة 1936 وعملياً لم تقبل فرنسا بقيام الدولة السورية الموحدة عام 1943 إلا بالترافق مع اعتراف دمشق بالدولة اللبنانية التي أخذت الأقضية الأربعة قبل أن يحصل الجلاء الفرنسي في 17 نيسان 1946.
هنا، كان ما جرى بين يومي 10 حزيران 1916- 17 نيسان 1946 هو الذي يشكل نفسية السوري العروبية ويجعله ينظر لقميصه بوصفه ضيقاً. بين العرب هناك شعور عروبي سوري هو الأقوى عند أصحاب لغة الضاد. يأتي هذا أساساً من ما جرى بين هذين اليومين وأيضاً يأتي هذا من أن الدولة الأموية كانت هي الإعلان عن قيام الدولة العربية ولكن برداء إسلامي قبل أن يأتي العباسيون ويطيحوا بالأمويين، عبر رأس عربي وجسم فارسي نحو مشروع دولة مسلمة أممية انقسمت في ما بعد بين العرب والفرس قبل أن يأتي السلاجقة الأتراك بعد ثلاثمئة عام من قيام الدولة العباسية وقبل أن يحصل انقسام العالم الإسلامي بين العثمانيين السنّة والصفويين الفرس الشيعة عبر معركة جالديران عام 1514.
لم يحصل جدل سوري جدي حول الهوية العروبية لسورية بين يومي 17 نيسان 1946- 18 آذار 2011. خلال السبع سنوات الماضية بدأت تساؤلات تطرح بقوة حول (الهوية السورية) من قبل أكراد (7 في المئة من مجموع السكان) زادت قوتهم عن حجمهم الديموغرافي بكثير بفضل الدعم الأميركي لهم في قتال (داعش)، الذي استغلوه من أجل فرض أنفسهم كرقم صعب في معادلات الأزمة السورية. تطرح تلك التساؤلات من قبل علمانيين يعيشون رهاب الخوف الهالع (فوبيا) من الإسلاميين في معادلات ذهنية- فكرية عندهم ترى سيد قطب مكافئاً للعروبة، على رغم كونه أممي التفكير وأعدمه الرمز الأكبر للعروبة، أي جمال عبدالناصر عام 1966. أيضاً هناك عداء للعروبة عند بعض المسيحيين السوريين الذين يرون أن هوية سورية مغتصبة منذ هزيمة البيزنطيين أمام المسلمين في معركة اليرموك عام 636 ميلادية. عند السلطة السورية مازال هناك تمسك قوي بالعروبة وهناك في الخطاب الرسمي وحدة هوية بين «العروبة» و «الإسلام» وفق نظرية ميشيل عفلق الذي يرى الثاني روحاً لجسد الأولى، وهذا لم يمنع السلطة السورية من أن تكون الأشرس في حربها ضد الإسلاميين كما أثبتت تجربتي 1979- 1982 و2011- 2018، وهو الذي يفسر تحالفها الثقافي– التشريعي مع «الإسلام المشيخي الرسمي». عند المعارضة في «الائتلاف»، الذي يسيطر عليه الإسلاميون، وفي «هيئة التنسيق»، التي يوجد بها يسار عروبي وماركسي، هناك تمسك كبير بالعروبة. في الوسط الشعبي الهوية العروبية السورية هي الغالبة عند السوريين ولو حصلت حزازات وجروحات تجاه عرب هنا وهناك في موقعي الموالاة والمعارضة وأيضاً من طريقة تعامل اللبنانيين والأردنيين مع اللاجئين السوريين بخلاف سورية التي كانت حاضنة للبنانيين في 1975- 1976 و2006.
الآن، هناك شعور سوري هو الأغلب والأقوى بأن العروبة هي اللاصق الوحيد لتوحيد السوريين في بوتقة وطنية واحدة، وأنها هي العابر الوحيد للأديان والطوائف والجهويات وحتى الاتجاهات السياسية في مرحلة الانفجار السوري الكبير. من دونها ستكون «السورنة»، التي لا تمكن أدلجتها إلا على طراز أدلجة تيودور هرتزل للصهيونية عبر تهويمات تاريخية بلا أساس تاريخي، طريقاً ملكياً إلى دولة المكونات على طراز لبنان ما بعد ميثاق 1943 وعراق ما بعد 9 نيسان 2003 حيث يقاس الفرد من خلال مقياس دينه وطائفته وعشيرته وليس من خلال كونه مواطناً متساوي الحقوق والواجبات مع الآخرين عند ترشيحه للوظيفة السياسية. بالتأكيد هناك حاجة إلى حل المسألة الكردية في سورية من خلال تساوي جميع السوريين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن دينهم وطائفتهم وجنسهم وقوميتهم وانتمائهم السياسي، ولكن كما في روسيا حيث الروس يشكلون الهوية القومية للاتحاد الروسي وهم لا يتجاوزون 80 في المئة من السكان، فإن من حق العرب السوريين أن يكونوا كذلك في سورية بحكم أنهم 90 في المئة من مجموع السكان.