ثمة شرط أساسي يدفع العرب حالياً، والسعودية خصوصاً، إلى الانفتاح على الرئيس السوري بشار الأسد. إنّه فكُّ ارتباطه بإيران على الساحتين السورية واللبنانية. ففي تقديرهم، أنّ هذا الهدف يتكفَّل بتعطيل الجسر الإيراني الممتدّ من طهران إلى بيروت، وهو أمرٌ يلقى تشجيع إسرائيل أيضاً. وثمة اتجاه متنامٍ لدى بعض حلفاء الولايات المتحدة، العرب والإسرائيليين، يتبنّى الفرضية الآتية: لا بأس بالاعتراف بالأسد أمراً واقعاً، إذا كان ذلك ثمناً لإضعاف إيران في قلب المنطقة العربية وإبعادِها عن حدود إسرائيل وشاطئ المتوسط.
قبل أيام من انتخابات رئاسية ستكرِّس تثبيتَه في الحكم 7 سنوات أخرى، يريد الأسد أن يقول للعرب والولايات المتحدة والأوروبيين إنّه حتى إشعارٍ آخر، وكما كان نظامه طوال نصف قرن مضى، سيبقى بوابة حتمية للاستقرار في الشرق الأوسط.
في سوريا، تُختَصر اليوم كل توازنات المنطقة: الروس يتمتَّعون هناك بنفوذ تعزّزه قواعد عسكرية واتفاقات استراتيجية، وهم يحظون هناك بتغطية إقليمية ودولية. وإسرائيل تمتلك ضوءاً أخضر مفتوحاً لتنفيذ أي عملية عسكرية، في أي منطقة من الداخل السوري. وفي الموازاة، للأتراك منطقة نفوذهم المتماسكة شمالاً.
وأما الإيرانيون الذين لهم الفضل الأساس في صمود الأسد، من العام 2011 إلى 2015- أي إلى أن تدخَّلت روسيا عسكرياً لمنع سقوطه- فلم يخسروا حتى اليوم معظم هوامش حركتهم العسكرية والأمنية والسياسية، وداخل النظام ومؤسسات الدولة. وهذه الحركة تحظى بمستوى معيَّن من القبول لدى الحليف الروسي، كأمر واقع.
حتى اليوم، يوحي الروس للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، بأنّهم الأفضل للاضطلاع بدور الشُرطي الذي ينظِّم المرور ويضبط المخالفات في سوريا، لمصلحة الجميع. لكن براعتهم تكمن في أنّهم يقومون بمهمتهم من دون أن يصطدموا بإيران.
عملياً، ترك فلاديمير بوتين لإسرائيل أن تنفِّذ الضربات العسكرية التي تراها مناسبة ضدّ إيران هناك، من دون أي اعتراض، ولو في محاذاة قواعده العسكرية في اللاذقية، كما حصل قبل أيام. أي، إنّه التزم المهمَّة الملقاة على عاتقه، ولكن بأداة إسرائيلية، فوفّر على نفسه وعلى الأسد أي إحراج مع الإيرانيين.
المثير هو أنّ الجميع راضٍ بهذا المَخرج. وحتى إيران تتفهَّم أصول اللعبة وتبدو كأنّها موافقة عليها. فضربات إسرائيل تؤدي إلى خسارة بعض العتاد العسكري الذي تقوم إيران بإدخاله إلى سوريا ولبنان، لكنها لم تعطّل الجسر الذي يتولّى دخول كميات أخرى كبيرة ونموّ النفوذ. والدليل أنّ إيران، في السنوات الـ6 الفائتة، على رغم من «الضوابط الروسية» وضربات إسرائيل، ازدادت قوةً في سوريا وأمسكت بغالبية مفاتيح القرار في لبنان.
في ظلّ هذه المعادلة، أين الولايات المتحدة؟
على الأرض، قد يبدو الحضور الأميركي في الشمال الشرقي محدوداً، وموازياً لدور قوةٍ إقليمية هي تركيا. ولكن، في الواقع، دور واشنطن يظلّل المعادلة كلها، وهو حاسم، في سوريا كما العراق ولبنان. ويدرك الروس أنّ قدرتهم على ممارسة النفوذ في سوريا تبقى مترنِّحة ما لم تكن ضمن تفاهمات مطلوبة مع واشنطن وحلفائها في المنطقة.
وعلى الأرجح، لن يُزعِج إيران أن تتمّ أي صفقة بين الروس والأسد من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من جهة أخرى، إذا كانت ستؤدي إلى تدعيم حضور حليفها الأسد وتوسيع الاعتراف بشرعيته، شرط أّن لا تمسّ بنفوذها.
وفي العمق، تدرك طهران أنّ لا الأسد يستطيع أو يريد التفريط بالتعاون الاستراتيجي القائم معها، ولا الروس راغبون في ذلك. وتالياً، هي مطمئنة إلى أنّ حضورها سيبقى فاعلاً داخل المؤسسات وعلى الأرض في سوريا ولبنان، بمعزل عن أي تعهُّد يرتبط به الأسد.
في شكل معاكس، تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يحصلوا من الأسد، ومن الراعي الروسي في شكل أدقّ، على تعهُّد موثوق فيه بأنّه سيتخلّى عن ارتباطه العضوي بإيران، ما يقود إلى إضعاف نفوذها في دمشق، وتالياً في بيروت.
وفي هذا الشأن، يُعبِّر خبراء ومسؤولون أميركيون ذوو خبرة عميقة في الشرق الأوسط عن شكوكهم. ومِن هؤلاء ديفيد شينكر، الذي رأى في مقال نشره أخيراً «معهد واشنطن»، أنّ التطبيع مع سوريا سيتيح للأسد تدعيم نفوذه، ولكن لن يدفعه إلى قطع علاقته الاستراتيجية مع طهران.
سيكون الأسد في موقع دقيق لجهة وفائه بالالتزامات. وعلى الأرجح ستكون صفقة التطبيع مع العرب جزءاً من ملامح صفقات أخرى أكثر اتساعاً. وسيكون عليه، مقابل حصوله على تغطية سياسية عربية ودولية لموقعه في السلطة، أن يدير توازنات حسّاسة تحوط به. وهذا الإدارة سبق لوالده الرئيس حافظ الأسد أن برع فيها. وربما يكون الأسد الإبن أكثر اعتماداً على الدعم والمشورة الروسيين.
وخلافاً لرهانات بعض العرب وحلفاء واشنطن الإقليميين، قد يعتمد الأسد، بدعم روسي، نهجاً «واقعياً» يقوم على التوازن في مواجهة التعهدات والالتزامات التي يرتبط بها، بحيث يحاول الحفاظ على مقدار من الحضور الذي ترغب إيران في استمراره في سوريا، وتالياً في لبنان، وفقاً لما تسمح به الظروف.
هل يمكن أن تطرأ ظروف توقِعُ الأسد في مأزق الاختلاف مع إيران في سوريا ولبنان؟ وهل «المناوشات السياسية» الدائرة حالياً داخل منظومة السلطة في لبنان، والمتعلقة بالاستحقاقات المقبلة النيابية والرئاسية، تؤشِّر إلى رغبة كل طرف في أخذ الأمور نحو اتجاه معيّن؟
الواضح، في هذه المرحلة، أنّ القوى المعنية تتقصَّد «تسطيح» ملف التطبيع بين الأسد والعرب، وتُسخِّف تداعياته السورية واللبنانية المحتملة، علماً أنّ مواقف معلنة لـ»رموزٍ» سوريّة في لبنان كانت أوحت بأنّ هذه التداعيات لن تكون سطحية.
ولكن، في أي حال، العارفون يرجِّحون أن تنطفئ المناوشات الجارية بين أركان المنظومة الواحدة، وأن يعالِج الحلفاء الإقليميون أمورهم تحت سقف التحالف. وحتى الآن، لا مؤشرات إلى المواجهة التي يراهن عليها الخصوم، سواء حصل التطبيع بين دمشق والعرب أو لم يحصل.