تستمر روسيا والولايات المتحدة الأميركية في التأرجح بين تثبيت الهدنة في سورية وبين تغطية خرقها من جانب النظام السوري. وكلما بلغت المجازر التي يرتكبها بدم بارد، في ريف حلب وحماة وريف دمشق، تستبقان ارتفاع الأصوات الأوروبية والعربية، بالعودة إلى «بلفة» تثبيت الهدنة وتوسيعها، مع زرع أسباب خرقها عبر دعوة المعارضة إلى التمايز عن «جبهة النصرة»، فتستفيد موسكو من تداخل مواقع التنظيمات المعتدلة مع مواقع «النصرة»، لتبرير اندفاع بشار الأسد والقوات الإيرانية نحو «الانتصار».
هكذا فعلت الدولتان العظميان حين أصدرتا بيانهما المشترك عن تثبيت الهدنة ليل الأحد الماضي، لاستباق اجتماع باريس الاثنين، للبحث في تقديم المساعدة للمعارضة السورية في وجه مشاهد الإبادة التي ميزت خروق الهدنة من النظام، وللقوطبة على اجتماع «أصدقاء سورية» الـ17 في باريس الثلثاء المقبل. الهدف هو الحؤول دون الرد بتمرير الأسلحة النوعية التي ظهرت منها صواريخ «تاو» في يد المعارضة قبل أيام، رداً على مجازر النظام، ما أتاح إنزال خسائر بدباباته وبمقاتلي الجيش الإيراني في ريف حلب وحماة.
تلجأ موسكو إلى واشنطن لإعادة إحياء المفاوضات السياسية بعد أن أجازت التصعيد الهمجي للنظام خلال الأسابيع الماضية، من أجل لجم مواقف من نوع الذي أدلى به وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أول من أمس، حين قال أن «الأسلحة التي تم تزويد المعارضة بها أكثر فتكاً وقوة من تلك التي تم تزويدهم بها من قبل»…
في الشكل تتسم محطات التوافق الأميركي الروسي بالرمادية. تارة تضغط كل منهما على الحلفاء من أجل الحل السياسي السوري، وأخرى تتيحان لهم التصعيد الميداني، وإن كانت موسكو تجنح أكثر من شريكتها إلى تنسيق هذا التصعيد مع هؤلاء الحلفاء وسط غض نظر من إدارة باراك أوباما.
وتحت سقف «التعاون» بينهما، لا يمكن عزل الموقف الروسي في سورية عن عاملين جوهريين:
– الأول هو غضب موسكو من مواصلة الإدارة الأميركية تقليم أظافر نفوذها في أوروبا عبر توسع الحلف الأطلسي في شرق القارة قريباً من حدود القيصر، وآخرها بالأمس نشر المنظومة الأميركية المضادة للصواريخ في رومانيا، الذي اعتبره الكرملين «بحد ذاته تهديداً لأمن روسيا»، فيما برره الأميركيون بأنه لحماية أوروبا من احتمال تهديد الصواريخ البالستية الإيرانية.
– الثاني هو أن اللعبة باتت مكشوفة بالنسبة إلى الاستراتيجية الإيرانية في ما يخص الدور الإقليمي. وإذا كان لا لبس في تصميم طهران على فعل ما يلزم لتثبيت الأسد، وضمان خط نفوذها الممتد من طهران إلى شواطئ بيروت، فإنها في المقابل لم تعد مطمئنة إلى ما أشيع عن «انبهار» أوباما بنجاحها في تحقيق المكاسب خلال عقود، إلى درجة دعوته دول الخليج العربي إلى «تقاسم النفوذ مع طهران في المنطقة». وواشنطن لا تسخر تأثيرها على «حلفائها السابقين»، من أجل منعهم من التصدي لنفوذ إيران، في الخليج واليمن وسورية… ومثلما أنها لا تشتغل عند دول الخليج ولمصلحتهم بل لمصالحها، كما يقول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله، فإنه من باب أولى، ألا تعمل عند إيران أيضاً، وهي تكتفي بإدارة النزاعات بين الفريقين، في الميادين كافة لوضع سقف لها، إذا عجزت عن حلها.
ما كانت تأمله طهران من إشراكها في الحل في سورية بعد دعوتها إلى اجتماعات فيينا آخر العام الماضي ومطلع الحالي، ما لبث أن تلاشى، بحكم انفراد موسكو مع واشنطن في إدارة الملف، أو باضطرار الأخيرة لاستدراك عثرات الحل باجتماعات مع الدول الأوروبية والعربية وتركيا… من دون إيران. وهو ما دفعها إلى تكبد أكلاف التدخل المباشر لجيشها، وإلى تخلي الرئيس حسن روحاني عن صورته كساع إلى التصالح مع المجتمع الدولي، بامتداحه تدخل «الحرس الثوري» في بلاد الشام و «بسالة الجنرال قاسم سليماني»، مهندس التمدد الإقليمي. وبدا روحاني منخرطاً بما يسميه مستشار المرشد، الجنرال رحيم صفوي استراتيجية بلاده على مدى 20 سنة مقبلة، لتمكين «حزب الله» من أن يكون الأقوى في لبنان، في إطار الجغرافيا السياسية الإقليمية. وهو ما يفسر انقلاب الحوثيين على كل اتفاق يحصل في محادثات الكويت.
هنا أيضاً تتمخض رمادية السلوك الأميركي تارة عن مراعاة مطلب طهران وموسكو بقاء الأسد، وأخرى عن مراعاة مصالح دول الخليج في دعم المعارضة، وعن التمسك بالعقوبات على ايران لتوسع نشاطها الإقليمي، ثم إبلاغ المصارف الغربية أن لا عواقب لتعاملها معها… وكذلك رمادية موسكو التي تتذمر أحياناً من «الحليف الصعب» وتطلق العنان في أخرى لجموحه العسكري. والشعب السوري ضحية اللعبة.