قبل اندلاع المواجهة الشاملة بين حزب الله والعدوّ في لبنان، نُشرت معلومات كثيرة (من بينها ما نشرته «الأخبار») حول خطط محتملة للعدوّ لتوسيع دائرة الحرب. وكان من بين الاحتمالات القوية، خروج العدوّ من الجولان باتجاه مناطق في القنيطرة، والسير على طول الحدود الشرقية للبنان، ليس بهدف منع أيّ أعمال عسكرية من منطقة الجولان ضد العدوّ فحسب، وإنما أيضاً لقطع الطريق بين البقاع والجنوب اللبناني.
حصلت تطورات كثيرة أثناء المواجهة حالت دون إقدام العدوّ على هذه الخطوة. لكن، ما إن بدأ وصول الأخبار عن انهيارات في صفوف قوات النظام السوري السابق، حتى باشر العدوّ تنفيذ خطّته نفسها. وفي وقت كانت فيه الفصائل المسلحة تستولي على المدن، واحدة تلو أخرى، كان العدوّ يبدأ برنامجه العملي، حتى إذا ما أُعلن عن سقوط دمشق، كانت قوات الاحتلال تتقدّم عميقاً، موسّعة انتشارها العسكري المباشر وتغطيتها النارية لكل المنطقة القريبة من حدود لبنان الشرقية في الجزء الجنوبي من الحدود مع سوريا. وترافق ذلك مع أوسع حملة جوية قامت بها طائرات العدوّ ضدّ كل ما تعتبره عنصر قوة في الجيش السوري، ونفّذت عمليات إنزال لقواتها في أكثر من منطقة، للوصول الى مواقع ومنشآت داخل الجبال، إضافة الى عمليات أمنية لا يزال الحديث عنها ممنوعاً حتى الآن.
عملياً، كانت إسرائيل من الأطراف الأكثر استعداداً للحدث السوري، وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأنها كانت بعيدة عما يجري. وبعيداً عن الاتهامات أو المعطيات حول علاقة العدوّ بما جرى في سوريا، فإن الحصيلة العملانية تمثّلت في أن إسرائيل حقّقت أبرز أهدافها في الإقليم: تدمير قدرات الجيش السوري، والحصول في الوقت نفسه على تعهد علني من القيادة الجديدة بأن سوريا لن تكون مصدر عمليات ضدها. وهو تعهّد جاء عقب اجتماع لم يُعرف سبب الاستعجال في عقده، بين قيادة هيئة تحرير الشام وقادة الفصائل الفلسطينية في دمشق، أُبلغ هؤلاء خلاله قرار حلّ تشكيلاتهم العسكرية ودعوتهم الى تسليم السلاح وإقفال المعسكرات في أسرع وقت.
كثيرون حاولوا الهروب من الاستحقاق الإسرائيلي في سوريا. أنصار المعارضة التي استولت على الحكم سارعوا الى القول إن إسرائيل عمدت الى عملياتها البرية والجوية لمنع وقوع أسلحة الجيش النوعية في أيدي هذه المجموعات خشية أن تستخدمها في وقت لاحق ضدّها. أما خصوم هذه الفصائل فقالوا إن سقوط النظام السوري أنهى عملية فعالية الحصانة التي كانت روسيا قد وفّرتها للجيش السوري سابقاً، وصار بمقدور إسرائيل التصرّف بحرية أكبر في سوريا، علماً أن العدوّ كان قد بدأ، منذ منتصف عام 2012، حملات مفتوحة ضد مراكز عسكرية ومصانع وقدرات عسكرية نوعية بحجّة أنها تخصّ إيران أو في طريقها الى حزب الله. وسيكون من الصعب توقّع وجود توافق على تفسير ما قامت به إسرائيل من الجانبين. لكنّ الأكيد أن مشكلة إسرائيل في سوريا كانت أكبر قبل سقوط الأسد، وأنها تجد نفسها اليوم أكثر قدرة على العمل والتفاعل. وتكفي الإشارة الى أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، التي واكبت العمليات البرية، كانت حاسمة في أن القوات المتقدمة لن تواجَه بأيّ نوع من المقاومة المسلحة. حتى إن جنود العدوّ كانوا أقلّ فظاظة عندما دخلوا الى منازل سوريين في تلك المنطقة، وطالبوهم بالخروج من قراهم لحين انتهاء العمليات العسكرية، وهو أمر استجاب له بعض السوريين الخائفين من بطش العدوّ، بينما رفضه آخرون لا يزالون في منازلهم.
في المحصلة، لا نعرف كيف نقيس الأمر من جانب إسرائيل حيال ما حصل في دمشق. صحيح أن العدوّ لا يمكنه الوثوق بأحد في الجانب العربي، وأن كل الضمانات التي قد يقدّمها حكام دمشق الجدد، أو رعاتهم في تركيا وقطر ودول أخرى، لن تقنع إسرائيل بعدم الذهاب بعيداً في جرائمها ضد السوريين. لكن الصحيح أيضاً أن العدوّ الذي يخشى سوريا، بمعزل عن هوية حاكمها، يتصرّف على أساس أنه حقق سلسلة انتصارات دفعة واحدة، من سقوط نظام الأسد، الذي كان حليفاً عملانياً للمقاومة في لبنان وفلسطين، الى إقفال الساحة السورية كمعبر مفتوح أمام القدرات العسكرية التي تصل الى المقاومة في لبنان، وكمعسكر لتدريب فصائل المقاومة الفلسطينية، أو حتى موطئ قدم لقوى مقاومة من بلدان أخرى. كما حصل، بصورة رسمية، على تعهّد من الحكم الجديد بأن الصراع مع إسرائيل ومطلب استعادة الجولان المحتل لا يمثّلان أولوية لهذا الحكم الذي سيكون منشغلاً ببناء سلطته الجديدة.
لكن مشكلة إسرائيل لا تقف عند هذا الحدّ، إذ إنها لا تريد بقاء سوريا موحدة، وتدعم علناً المشروع الانفصالي للأكراد في الشمال السوري، وتبني روابط سياسية واجتماعية، وليس أمنية فقط، مع قيادات – وليس مع مخبرين – من سكان الجنوب السوري، وخصوصاً في منطقة السويداء، مستغلة العنصر البشري لدروز فلسطين من أجل حثّ دروز سوريا على التعاون، وصولاً الى تقديم مغريات لهم بالحصول على دعم لفكرة قيام حكم ذاتي إن أرادوا ذلك في محافظة السويداء. ويعرف الجميع، كما تقرّ إسرائيل نفسها، بأنها بنت شبكات من المتعاونين معها من المسلحين الذين قاتلوا النظام السابق في بعض مناطق درعا والقنيطرة والسويداء. كذلك يعرف الجميع عن العمليات الكثيرة التي قامت بها قوات الاحتلال ضد كوادر من حزب الله أو من السوريين العاملين معه في هذه المنطقة. وقد أغار العدوّ علناً على شقة في دمشق وقتل المقاوم سمير القنطار، على خلفية دوره في «تجنيد دروز الجولان» للعمل ضد قوات الاحتلال.
في مقابل إنجازات العدوّ السورية، كانت إيران تواجه مأزقاً جديداً. لم يكن الأمر مرتبطاً فقط بسقوط الرئيس الأسد، بل ما سبقه من خطوات قام بها النظام السابق عكست رغبة في التخفّف من أعباء محور المقاومة. وثمّة معطيات كثيرة تفيد بأن الإيرانيين لم يكونوا على وئام مع الأسد في السنة الأخيرة، وكانوا يعبّرون عن انزعاج من السلوك الروسي في سوريا، وتتهم طهران موسكو بالوقوف خلف الكثير من الخطوات التي سهّلت للعدوّ تنفيذ هجمات ضدّ أهداف إيرانية في سوريا.
كانت إسرائيل من الأطراف الأكثر استعداداً للحدث السوري، ومن السذاجة الاعتقاد بأنّها كانت بعيدة عما يجري
وبدأت مشكلة إيران مع الأسد بدأت عندما قرر التخلي عن استراتيجية القوى الرديفة. ففي عام 2021، بدأ الرئيس السابق يتحدث عن إعادة تنظيم جيشه، وكانت أولى الخطوات العمل على دمج المجموعات العسكرية التي نشأت خلال سنوات المواجهة مع المعارضة، ضمن صفوف الجيش. كان للأسد تبريره المنطقي بأنه لا يرغب في وجود جيش رديف، رغم أن النقاش معه، من قبل إيران وحزب الله، ركّز على أن القوى الرديفة لم تقم لمجرد الحاجة إليها في المواجهات السابقة، ولا لإضعاف الجيش، بل لأن طبيعة تشكيلها وآليات عملها ونوعية تدريبها وشكل إدارتها والامتيازات التي تُقدّم الى أفرادها، تجعلها أكثر فعالية. كما أن هناك الكثير من الشباب السوري الذي لا يريد الانخراط في الخدمة الإلزامية في الجيش، وجد في «الوصفة» الإيرانية بقيام وحدات دفاع رديفة فرصة للعب دور، من دون التورط في العمل ضمن مؤسسات النظام.
رغم ذلك، لم يرد الأسد لهذا الأمر بأن يستمر. وكان القرار واضحاً لدى إيران وحزب الله بالاستجابة له، مع تعهد من إيران ومن الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله بعدم إعادة بناء هذه المجموعات من جديد. وهو ما حصل، إذ جرى دمج أكثر من 25 ألف مقاتل في صفوف الجيش السوري، وإخضاعهم للظروف نفسها التي يعيشها جنود الجيش، ما دفع بغالبيتهم الى ترك الجيش خلال شهور قليلة.
وزاد وضع الإيرانيين حراجة عندما باتوا يشعرون بأن الأسد يميل الى خيارات قد تقود الى صدام معهم. صحيح أنه أطلع إيران وحزب الله على كل اتصالاته مع الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وبقية دول الخليج العربي ومع أطراف أخرى في الإقليم، لكنه لم يكن صريحاً كفاية حول خطته اللاحقة. وكانت عناصر القلق تزيد في كل مرة يرفض فيها الأسد القيام بأيّ خطوات داخلية يمكن أن تخفّف الضغط العام. قد يعتقد البعض بأن إيران لم تكن ترغب في أن يصالح الأسد إردوغان، وقد يكون في هذا شيء من الصحة. لكنّ المؤكد أن المسؤولين الإيرانيين، وخصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران، كانوا يميلون الى إقناع الأسد بالسير في صفقة تشمل تركيا وكل دول المنطقة، وأن يعمد الى عقد اتفاقات يقدّم خلالها تنازلات مقابل الحصول على دعم لإعادة بناء بلده. وفي الوقت نفسه، كانت إيران تحذّره دائماً من أن هؤلاء يريدون منك الابتعاد عن إيران، ولن يقدّموا لك أيّ بديل، سوى إيهامك بأنهم يوفرون الحماية لك.
بعد اندلاع معركة طوفان الأقصى، كانت إيران أول من استجاب لنصيحة الشهيد السيد نصر الله بإبقاء سوريا خارج جبهات الإسناد. وهو رفض كل الاقتراحات باستخدام الأراضي السورية لقصف كيان العدوّ، وكان يحذّر من أن إسرائيل ستستغل أيّ عملية للقيام بموجة قصف تدمّر كل مقدرات الجيش السوري. وكان موقفه يستند الى أن روسيا لم تمنح النظام السوري الضمانات الكافية بعدم تعرّض إسرائيل لقواته، ولا منظومات الدفاع الجوية التي تسمح للجيش السوري بالتصدّي لأيّ عدوان إسرائيلي واسع.
حصل الكثير من التطورات خلال الأشهر القليلة الماضية، وفيها الكثير من الوقائع التي يفترض بالإيرانيين الحديث عنها، لكن ما لا يمكن تجاوزه يتعلق بالمرحلة الأخيرة، عندما طلب الأسد خفض عدد المستشارين الإيرانيين في سوريا في إطار تفاعله مع المبادرة الإماراتية – السعودية، فيما كانت إيران تحذّره من وجود خطط شبه جاهزة لدى الفصائل المسلحة للقيام بعمليات عسكرية واسعة ضدّ قواته، ليس في حلب فقط، بل في مناطق أخرى. وقد زوّد الإيرانيون النظام السوري السابق بمعلومات استخباراتية موسّعة عن أمور حصلت فعلياً.
عندما بدأت المعركة، حاولت إيران – لمرة أخيرة – إنقاذ الأسد. لكنها كانت تعرف أن الأمر لا يمكن أن يتم بالطريقة السابقة، بل من خلال عملية سياسية حاولت طهران تحقيق اختراق فيها، رغم أنها كانت ولا تزال على ثقة بأن الجانب التركي لم يكن ليقبل بأيّ حل وسط، وأنه قرر خوض المعركة حتى النهاية بالتعاون مع جهات أخرى؛ على رأسها الولايات المتحدة. لذلك، سعت إيران في الأسابيع الأخيرة الى محاولة حصر الأضرار، ولا سيّما أنها تراقب بحذر شديد ما يجري في غزة وما جرى في لبنان وما هو مخطّط له في العراق وضدّها مباشرة. وكل ما فعله الإيرانيون منذ لحظة سقوط الأسد هو التواصل مع تركيا وقطر، وإبلاغهما بأن مصالح إيران في سوريا لا تتصل بوجود نظام الأسد، وأن على الحكم الجديد في دمشق إدراك هذا الأمر، تمهيداً لأيّ نقاش حول مستقبل العلاقة بين البلدين.
يبقى أن الطرف الثالث المعنيّ بما يحصل في سوريا هو روسيا، الدولة التي أقنعها الإيرانيون سابقاً بأن مصالحها الاستراتيجية تقتضي أن تتصرّف بطريقة مختلفة في منطقة غرب آسيا، كما يطلق الإيرانيون على الشرق الأوسط. ولم تكن موسكو تحتاج الى شروحات أكثر عن الحاجة إلى الوجود المباشر في المنطقة، بعدما أقصتها الولايات المتحدة يوم غزت العراق، وما فعله الأوروبيون بها في شمال إفريقيا. وعندما قرر الرئيس فلاديمير بوتين إطلاق عملية الدعم الهائلة للنظام في سوريا عام 2015، كانت موسكو تخطو خطوة أولى في طريق المواجهة المباشرة مع النفوذ الأميركي في المنطقة. لكن روسيا ليست جمعية خيرية، وهي تريد المقابل مباشرة، وما حصلت عليه من قواعد في الساحل السوري لم يكن كافياً، وخصوصاً أن لها علاقاتها ومصالحها داخل سوريا وفي المنطقة أيضاً. فهي ليست في معركة مع إسرائيل، كما أنها طالبت الأسد مراراً بأن يوسّع الحكومة لضمّ معارضين، من بينهم من يقيم في روسيا نفسها. وكان المسؤولون الروس يعبّرون عن ضيقهم من عدم تجاوبه، حتى وصل الأمر بمسؤول روسي كبير الى القول: «لم نتمكن من إقناع الأسد حتى بالسماح لقدري جميل بالعودة الى دمشق»!
جاءت حرب أوكرانيا لتقلب الأمور رأساً على عقب. لم تفرض الحرب الجديدة انقلاباً في الخطط الروسية، لكنها فرضت حسابات جديدة، من بينها علاقات مختلفة مع تركيا، وتأثير إسرائيل في الحرب نفسها، والدور الأوروبي. وكانت روسيا تشعر على الدوام بأن ما يريده الأسد منها يتجاوز قدرتها من جهة، ولا يتطابق مع برنامج الدعم الذي اتفق عليه بوتين مع قائد قوة القدس الشهيد قاسم سليماني. وهو ما جعل الأسد يحاول بناء علاقات موازية داخل الحكم الروسي، سواء من خلال جنرالات أو من رجال أعمال، وخصوصاً أولئك الذين تفرض عليهم الولايات المتحدة عقوبات. وفي الوقت نفسه، أصابت سوسة الفساد الضباط الروس الذين خدموا في سوريا، وقد باع مهربون وتجار كميات كبيرة من السلاح الروسي الى مجموعات مسلحة في إدلب ومناطق أخرى، تم تسجيلها على أنها خسائر حربية. فيما كانت تقديرات القيادة العسكرية الروسية تتوالى عن تراجع كفاءات وقدرات الجيش السوري على المواجهة.
ويقول الروس أيضاً إنهم حذّروا الأسد من مشاريع لإسقاطه، وأشاروا الى وجود تعاون بين الفصائل المسلحة والسلطات الأوكرانية على تطوير سلاح المسيّرات والاستخبارات الجوية، كما أن جهات أوروبية دخلت باسم الأوكران الى قلب المعركة. لكنهم يشكون من أن الأسد لم يكن يستجيب لطلباتهم أيضاً، ويعبّرون عن اعتقادهم بأنه كان يراهن على حلول سياسية توفرها الإمارات العربية المتحدة على وجه التحديد.
اليوم، تقف روسيا عند الشاطئ. صحيح أن الحكم الجديد لا يرفع شعار طردها من سوريا. لكن الاستخبارات الروسية تعتقد بأن الأمر لن يطول حتى يخرج من داخل سوريا من يدعو الى الجهاد ضد الاحتلال الروسي، وبأن المسلحين السوريين يجدون في الوجود الروسي خطراً أكبر من الاحتلال الإسرائيلي. لذلك، تعتقد موسكو بأن الكلام مع الحكم الجديد سيكون مضيعة للوقت، وأن الأفضل والأكثر فعالية هو التوجّه مباشرة نحو الأتراك. ذلك أن موسكو، كما طهران وتل أبيب، تردّد ما قاله الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأن سوريا باتت اليوم تحت الوصاية التركية.