IMLebanon

كأنّ «أتاتورك مَن» كلّفه: «الجولاني» يوزّع رسائل الاطمئنان!

 

 

أحيا اجتياح فصائل المعارضة السورية مناطق النظام في حلب وحماة واقترابها من حمص، في ذاكرة السوريين والمنطقة ما رافق اجتياح «داعش» ورفيقاتها الحدود العراقية ـ السورية وصولاً إلى ساحلها قبل 10 سنوات. وبرز قائد إحداها ابو محمد الجولاني بمظهر ومنطق جديدين أبعدت عنه الوجه الارهابي، متلبساً بربطة عنق وبلحية مشذبة موزعاً رسائل التهدئة بـ «اللوك الجديد» في كل الإتجاهات في الداخل والجوار، مطمئناً الخائفين من حركته، وكأنّه يحمل أمر مهمّة تاريخياً من مصطفى كمال أتاتورك لاستنساخ تجربته في «تركيا العلمانية» على الساحة السورية. وعليه كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟

قد يُسجّل التاريخ يوماً انّ هناك مجموعات مسلحة سورية امتهنت الدين الإسلامي غطاءً لعملياتها العسكرية منذ أكثر من 13 عاماً، وقامت بما قامت به من انتهاكات لحقوق الانسان، وهي تخضع للعقوبات الاميركية والدولية، وأُدرجت على لوائح الارهاب العالمي، لم تتعرّض لأي انتقاد دولي منذ القيام بعملية عسكرية غير مسبوقة للسيطرة على مناطق واسعة من «سوريا المفيدة» التي تخضع لسلطة الرئيس الشرعي والدستوري بشار الاسد ومعها المنظمات الموالية له، محلية كانت او من إنتاج الحرس الثوري الايراني وأخرى من هويات تنتمي إلى محور الممانعة.

 

ليس في ما سبق اي شيء مستغرب، فالتحولات التي عاشتها المنطقة تبدّلت كثيراً وغيّرت ادواراً ومهمّات، وإن لم تتغيّر وجوه ابطالها لمجرد تغيير ملامحهم. فالمرحلة التي تعيشها المنطقة وسوريا بالتحديد مختلفة عن سابقاتها في شكلها ومضمونها، ولا يمكن العودة بالتاريخ إلى ما رافق انتشار وحدات «الدولة الاسلامية في العراق وسوريا» (داعش) التي توسعت بقوتها المتعاظمة، وما شهدته تلك المرحلة من «تفقيس» لعشرات المنظمات الإرهابية والمتحايلة على هذه الصفات بشعارات ما لبث ان ظهر زيفها وتوزعت المجازر وموجات التدمير والحرق والتجريف إلى حدود الإبادة الجماعية ومعها اعمال السبي والاتجار بالبشر والترهيب والترغيب التي اقشعرت لها الأبدان، بعدما توسعت إلى مناطق واسعة من سوريا والعراق ولامست الأراضي اللبنانية في مناطق عدة.
إلّا انّ ذلك لم يدم في ظل مجموعة المشاريع السياسية والدستورية التي طُبق معظمها في العراق الذي غيّر من وجوه السلطة اكثر من مرّة بآلية دستورية وقانونية، وعلى رغم مما أُعدّ من شبيهاتها ومثيلات لها في سوريا فقد بقيت حبراً على ورق. وتعثرت الجهود الدولية والإقليمية بعدما رفض النظام تطبيقها في مراحل اعتقد انّ الاوضاع استتبت له وقد استعاد «سوريا المفيدة». وهو ما ترجمته على رغم من مسلسل مؤتمرات أستانة وتفاهماتها ووثائقها بعد جنيف وسوتشي وبروكسل وفيينا عدا عن الجهود الروسية التي رُصدت في الأمم المتحدة لتوليد الدستور السوري الجديد والتي انهارت تباعاً واحدة بعد أخرى.

 

وعلى رغم من غياب المعارك بين الفينة والاخرى في المناطق السورية الموزعة على مجموعة من القوى الاميركية والروسية والتركية والإيرانية، عدا عن تلك المحدودة الواقعة تحت سيطرة النظام والمحكومة من الحرس الثوري الايراني و «حزب الله»، فقد اعتقد البعض انّ بعض المخارج قد وجدت وخصوصاً بعدما اعادت المبادرات العربية والخليجية تحديداً «سوريا الاسد» إلى الحضن العربي. لكن ذلك لم يدم طويلاً قبل ان تتبخّر الوعود والتعهدات. وهو ما قاد إلى الفشل في إتمام بعض المصالحات التي كانت مرغوبة ومطلوبة عربياً ودولياً. وإن أنجزت في مناطق محدودة ترجمتها عودة الاكراد في شكل من الأشكال إلى حضن النظام ادارياً مع احتفاظها بهامش كبير من الإدارة والسلطة المحلية في الحسكة والقامشلي ومحيطهما، فإنّ مناطق أخرى بقيت في مدار المتغيرات التي وإن بقيت مساحة واسعة لأي عملية عسكرية إسرائيلية بما فيها دمشق والمساحات المتاخمة للحدود مع لبنان من السويداء إلى القلمون الشمالي والقصير، جعلت من محافظات عدة موضع نزاع غابت عنها السلطة الدمشقية وبقيت محدودة بين مجموعات موالية لتركيا وأخرى لإيران عدا عن تلك التي تسيطر عليها الوحدات الاميركية، وهو ما جعل من محافظات إدلب والجزيرة المتاخمة لمثيلاتها التابعة للنظام في حلب وحماة ودير الزور وحمص موضع نزاع مختلف الوجوه على رغم من وجودها في مناطق هي الأقرب للوجود الروسي في اللاذقية وحميميم وحمص ومناطق محيطة بها وضعت تحت الادارة الروسية المباشرة في نطاق محدود جداً.

 

وعلى ضوء هذه الصورة الفسيفسائية تُجري المراجع الديبلوماسية والسياسية مقاربة لما يجري منذ السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي في سوريا، لتقول انّ المناطق المتنازع عليها تحولت مساحة نزاع نتيجة خلافات كبرى بقي فيها النظام طرفاً مدعوماً من إيران وبعض القوى التي تدور في فلكها باستثناء الفصائل العراقية التي تحسست المخاطر الناجمة عن العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان مخافة أن تتكرّر التجارب المريرة على أراضيها. ولذلك ظهرت إيران انّها عاجزة عن تقديم مزيد من الدعم العسكري كما في السابق، بعد استهداف خبرائها ومستشاريها وقنصليتها عدا عمّا انتهت عليه الهجمات الاسرائيلية إبّان حربي غزة ولبنان على أراضيها التي مسّت بقدرات هائلة عسكرياً ومدنياً وخدماتياً وربما نووياً في محافظات عدة محيطة بطهران.
وعليه، يمكن القول، تضيف المراجع عينها، انّ إيران احتفظت بالمواقف السياسية الداعمة للنظام السوري من دون القدرة على ترجمتها عسكرياً سوى تلك التي توفرها بعض المنظمات الاخرى الحليفة التي تلقّت ضربات اسرائيلية انهكتها في أكثر من منطقة من جنوب العاصمة وشرقها ومحيطها إلى القلمون. من دون ان ننسى الضربة الاخيرة غير المتوقعة في تدمر التي أخرجت البعض منها من الخدمة العسكرية الفعلية. عدا عن التحول والوهن الكبيرين اللذين أصابا دور «حزب الله» في لبنان فاقترب تدخّله من نقطة الصفر في بعض المناطق الداخلية بعدما اضطر للعودة إلى لبنان لخوض حرب «الإلهاء والإسناد» على مدى 14 شهراً فَقَد القدرة على تغيير ما غيره في المعارك ما بين العامين 2016 و2020. ولم يعد وارداً ما قام به عندما واجه المنظمات المختلفة وأنهى وجودها على مساحات واسعة قبل ان يؤدي تراجعه إلى نمو قوة خصومه وحضورهم مجدداً وخصوصاً في المناطق المتوترة اليوم.

 

وعليه، وفي انتظار ما ستحمله التطورات المتسارعة على الساحة السورية والتي باتت تقاس متغيّراتها بالساعات، لفتت المراجع إلى دور الجولاني المتطور في شكله وخطابه وأداء وحداته العسكرية. إذ لم يسجّل إبان العمليات العسكرية في الايام العشرة الاخيرة ارتكاب اي مجزرة او اي اعتداء على خلفيات التجارب والأفكار السابقة مع الإيزيديين والمسيحيين والهويات المختلفة من سريان وكلدان واشوريين التي قدّمت عنه صورة مرعبة. وتحول «رسول فتح وسلام» يوزع بطريقة غير متوقعة رسائل الضمانات والاطمئنان الى المكونات السورية المسيحية والارمنية والكردية والعلوية للعيش معاً والبقاء في مناطقهم وداخل بيوتهم ولن يمسهم سوء.
ولم يكتف الجولاني بذلك، فقد كان لافتاً التوقف عند مضمون رسائله التي وجّهها الى القيادة العراقية مطمئناً رئيس حكومته بأنّ مشاريعه لن تطاول الاراضي العراقية. وهي رسائل دفعت بعض الخبراء في تاريخ المنطقة إلى القول انّ الجولاني المدعوم تركيا لم يتصرّف على هدي من رئيسها رجب طيب أردوغان على تعنته، بمقدار ما أوحى بأنّه يحمل رسالة تاريخية من مؤسس تركيا العلمانية مصطفى كمال أتاتورك ويترجمها في حديثه عن «سوريا الجديدة» بما فيها من العِبَر التي وضعت قيد التجربة والمراقبة في انتظار ما ستنتهي اليه العمليات العسكرية ونتائجها من متغيّرات متوقعة على الساحة السورية.