Site icon IMLebanon

هل توصل المعارك إلى “طائف” سوري؟

 

بين إخراج النفوذ الإيراني والخطر على نظام الأسد

 

 

يقول روجين روغان في مقدمة كتابه “تاريخ العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر”، إنه “في كل مرحلة تاريخية فاصلة سقطت فيها قوى مهيمنة وظهر نظام عالمي جديد، كان العرب يعودون إلى البداية، ويظلون هناك إلى أن يتقنوا القواعد الجديدة التي تحكم العصر”. وروغان هو مؤرخ وباحث أميركي، ومحاضر في التاريخ الحديث للشرق الأوسط في جامعة “أوكسفورد”، عاش شطراً من حياته بين بيروت وعمان والقاهرة، وتعلم في مدارسها، وألّف عدداً من الكتب عن تاريخ العرب.

 

 

هذه الجملة المفتاحية أحوج ما نكون إليها في عالمنا العربي، وفي القلب منه لبنان، في هذه اللحظة الدقيقة، حيث تعصف رياح التغيير بالخرائط الجيوسياسية للمنطقة بشكل متسارع، حاملة معها الكثير من التحولات المذهلة، والتي ما تزال عصية على التصديق لدى شرائح واسعة من النخب السياسية والجماهير والباحثين على حد سواء. صنعت إيران، بشكل أو بآخر، “طوفاناً” جيوسياسياً أرادت من خلاله توسيع مساحة نفوذها، من خلال القضية الفلسطينية، الأكثر تأثيراً وجدلاً في الوقت عينه .

 

وبينما كانت تداعب ملالي إيران أحلام الإمبراطورية التي ظنوا أنها على قاب قوسين أو أدنى، على وقع “وحدة ساحات” مصطنعة، صعدت على أكتاف تحالف شابه الكثير من الارتجالية والافتعال مع فريق من “الإخوان المسلمين”، أريد له أن يشكل تهديداً جدياً للدول، ولا سيما السعودية، ارتد الطوفان على صانعه الأصلي، هناك في إيران، حيث يستشعر مرشدها بالخطرالشديد، ليس على نفوذه في المنطقة، بل على النظام الثيوقراطي الذي أسسه سلفه الخميني، وجعل مهمة حمايته أكثر قداسة من ظهور الإمام الغائب نفسه، مردداً الجملة التي قالها السلطان سليم الثالث حينما شرع في تحديث الإمبراطورية العثمانية وجيشها “أشعر بيد الأعداء تتجول فوق كبدي”.

 

وعلى النقيض مما بدا غداة المراحل الأولى لـ”الطوفان”، فإن السعودية ودول الخليج عامة، أثبتت أنها كانت مدركة تماماً للقواعد التي تمهد لنشوء نظام إقليمي جديد في المنطقة، بحيث لم تنجر لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، واستمرت في مراكمة الجهد لترسيخ وتطوير مكانتها في هذا النظام، حيث تكون لها الكلمة الفصل.

 

 

 

من بركان غزة الذي ما يزال يلقي بحممه الجيوسياسية على محيطه، إلى زلزال لبنان الذي جعل “حزب الله” يجثو على قدميه، وإن كان يصر على المكابرة والإنكار، وصولاً إلى العاصفة التي بدأت تعصف من جديد بالخريطة السورية، ملقية بالكثير من الفرضيات والاحتمالات. من هو المستهدف في تحرك فصائل المعارضة؟ ومن هم المستفيدون والمؤثرون؟

 

لا بد من الإشارة إلى أن تحرك الفصائل السورية المعارضة مرتبط بسياق من الجمود السياسي الطويل والستاتيكو السلبي في ظل استعصاء الحلول، حيث واظب الرئيس السوري على سياسة نظامه الشهيرة بالتسويف وشراء الوقت، خصوصاً مع افتقاره إلى الأدوات السياسية الجدية التي تمكنه من دفع العملية السياسية قدماً، رغم التزامه التام بالنصائح الخليجية المندرجة ضمن عملية تأهيل النظام، والتي جعلت دمشق تقف على الحياد في الحرب بين الغرب وإسرائيل ، وبين محور الممانعة بقيادة إيران، مع محاولته استغلال اهتمام العالم بالحرب الإسرائيلية على “حزب الله” في لبنان من أجل ضرب الجيب المعارض، للحصول على بعض المكاسب الآنية، من دون إغفال تأثير الوصاية الإيرانية على القرار السوري، والذي منع الأسد من ملاقاة انفتاح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والإيفاء بالتعهدات التي قطعها للعرب بخصوص حدوده السائبة.

 

في البداية اتخذ تحرك الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا طابع العملية المحدودة التي تهدف إلى تحجيم النفوذ الإيراني، وتحريك العملية السياسية، مع حصولها على غطاء روسي وأميركي وأوروبي. سرعة سقوط حلب، التي تفوق مساحتها مساحة لبنان، وبلا قتال تقريباً، عزز هذه الاستنتاجات، ولا سيما مع غياب دمشق الكامل إعلامياً وميدانياً.

 

ثمة عامل لا بد من التوقف عنده، هو الاحترافية، التي كانت السمة البارزة لتحرك الفصائل المسلحة، بما يتناقض مع فوضويتها في مراحل سابقة، ما يعكس وجود عقل دولتي منظم خلفها، بالإضافة إلى حسن التعامل مع السكان على اختلاف انتماءاتهم، والبيانات الموجهة إلى الدول والقنصليات، وغياب العمليات الانتقامية، والتعهد بضمان الأمان للجميع، والمسارعة إلى تقديم المساعدات الغذائية. والأهم الحديث عن إفساح المجال وتهيئة المناخ والأرض أمام عودة النازحين واللاجئين، وهو البند الذي غيّر موازين القوى السياسية في الدول الأوروبية.

 

 

 

تركيا التي تقف خلف هذه العملية اختارت توقيتاً مثالياً، بعدما استنفدت جهدها في الدعوات للمصالحة والانفتاح، واستغلت رغبة روسيا في طرد إيران لعدم منافستها في ميدان نفوذها، بطريقة لا تؤثر على مصالحها مع طهران. وكذلك الحال بالنسبة إلى أميركا “الترامبية”، التي ترغب في التخلص من تهديدات فصائل وأذرع إيران في منطقة نفوذها في قاعدة “التنف” وجوارها، والتخفف من دعمها للأكراد الذين يحكمون 25% من الجغرافيا السورية، حيث تتلاقى واشنطن وأنقرة على منع نشوء كيان كردي جديد، فالأولى تريد استمرار القضية الكردية ورقة ضغط سياسي، وسبق أن منعت إجراء انتخابات محلية في “روج أورفا”، ودعمت بعض العشائر العربية في قتالها ضد قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، فيما الثانية تعتبر أي كيان كردي تهديداً لأمنها القومي، خصوصاً بعدما أشار وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى هذه القضية كسلاح يهدد به تركيا. في حين كانت ردود الأفعال الأوروبية مرحبة بما حصل، والذي يلتقي مع سياسة الانفتاح على دمشق التي تقودها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بهدف التخلص من كابوس اللاجئين.

 

 

 

وكما هي الحال في لبنان، فإن ردّ الفعل الإيراني كان أسرع من أهل الأرض أنفسهم، حيث زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق، والتقى الأسد لثنيه عن تقديم التنازلات السياسية قبل الميدانية. وترجم ذلك ببدء تنظيم بعض خطوط الدفاع للجيش السوري في حماة. وكان له تغريدة تعبّر عن جوهر الصراع بين إيران وتركيا على أرض سوريا، حينما تحدث عن الشاورما التي تناولها مع نظيره السوري في أحد مطاعم دمشق قائلاً “يمكنك أن تجد الشاورما في كل مكان، لكن الشاورما الأصيلة تعود إلى دمشق، ويعود تاريخها إلى أكثر من قرن. كان مكانكم خالياً…” في إشارة واضحة إلى تركيا التي تشتهر بالشاورما.

 

تطور العملية واقتراب الفصائل من حماة، والحديث عن حمص وريفها مع حصول هجمات متفرقة على صيدنايا وغيرها، كل ذلك أدخل النظام في دائرة الخطر من جديد، بما يعزز الاستنتاج بأن العملية تذهب أبعد من التخلص من النفوذ الإيراني. ومع ذلك، فإن دمشق تحظى بدعم عربي ودولي كانت تفتقر إليه في السنوات الأولى التي أعقبت اندلاع الثورة الشعبية ربيع عام 2011. إذ ذلك يصبح الحد الادنى للمعارك الدائرة حالياً، إنتاج  آلية تنفيذية للقرار الدولي 2254 أو دمجه مع مسار “أستانة”.

 

 

 

هكذا تتخذ العملية بعداً آخر، حيث يصير الهدف تجديد شرعية النظام في سوريا دولياً واقليمياً ، إنما بشكل جديد، عبر طرح سبق وضعه على الطاولة في السنوات الأولى للأزمة: تعديلات على نظام الحكم يدمج كل القوى المعارضة بما فيها الدروز والأكراد، ويبقي سوريا موحدة، على أن يقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية وينقلها إلى الحكومة، على نسق اتفاق “الطائف” في لبنان، والذي جرى استنساخ اتفاق شبيه له في عراق ما بعد صدام حسين.

 

الضامن الأساسي لهذا الاتفاق ستكون دول الخليج، بالاشتراك مع أميركا وروسيا وتركيا، لكن ترتيباته وتفاصيله رهن المفاوضات الساخنة الدائرة حالياً. إلا أنه يتلاقي في جوهره وأهدافه في إخراج النفوذ الإيراني، أو على الأقل جعله محدود التأثير. ويتلاقى مع القرار الدولي بإحالة الجبهة الجنوبية في لبنان إلى التقاعد، من خلال التخلص من سيطرة “حزب الله” على الحدود السورية – اللبنانية لقطع خطوط إمداده الإيرانية تماماً. وربما يكون المسرح التالي هو العراق لإخراج الضامن الإيراني لـ”الطائف العراقي” لحساب الضامن العربي الذي أثبت أنه الأكثر موثوقية واستدامة وإنتاجية.