بدا منذ الساعات الأولى للتدخل العسكري الاقتحامي من روسيا في سورية، وكأنه جسر عبور نحو «الحل السياسي» للأزمة وهي في عامها الخامس ويزيد.
ويبدو أن شعار المرحلة مع هذا الحراك السياسي الدولي المكثف ومن وحي اجتماعات العاصمة النمسوية فيينا، والتي ستعقد لاحقاً، أن بداية الخروج من النفق السوري القائم قد بدأ التمهيد لها على شاطئ نهر الدانوب الأزرق.
وفي أبرز الأمور اللافتة لمداولات فيينا في الساعات الأخيرة مشاركة إيران للمرة الأولى في المشاورات الآيلة إلى حل سياسي بعدما استُبعد المضي في حلول عسكرية مدمرة. وشهد اجتماع فيينا أول لقاء بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية.
وفي عمق الأزمة، طغى الحديث على «موعد رحيل الرئيس بشار الأسد» على ما عداه من شؤون ترتبط مباشرة بـ «الحل السياسي». وفيما حرص وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على التكرار والإصرار على «ضرورة الالتزام بموعد محدد لرحيل الأسد، لأن لا دور له في المرحلة المقبلة الآتية على سورية»، عكس وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف موقفاً مغايراً، فطرح السؤال: من وما هو الأهم: تحديد مصير سورية أم مصير الأسد؟
وتميز الطرح الروسي بالحدة عندما قال لافروف: «تروج شائعات مفادها أننا نتوافق هنا في فيينا على أن الأسد سيرحل بعد فترة، والأمر ليس كذلك»، مضيفاً: «مصير الرئيس السوري ينبغي أن يقرره الشعب السوري»، وموسكو ترفض تنحي الأسد وتعتقد أنه يجب توسيع دائرة المجتمعين في فيينا لتضم مثلاً الأعضاء في مجلس الأمن، إضافة إلى اللاعبين الاقليميين كمصر وإيران والأردن وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وحدث ما يشبه السجال الإعلامي بين وزيري الخارجية السعودي والروسي، فتولى الوزير الجبير عرض الموقف السعودي وقال إن جميع الأطراف متفقون على ضرورة تسوية الأزمة بالوسائل السياسية على أساس بيان جنيف، وفي موازاة مكافحة الإرهاب. وأضاف «إن الخلاف الوحيد بين الأطراف يرتبط بضرورة رحيل الأسد والمرحلة التي يجب أن يرحل فيها».
أما الممثلة العليا للاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية فيديريكا موغريني والتي شاركت في اجتماعات اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط، فأعربت عن الأمل «في أن تكون إيران طرفاً في عملية التشاور».
إن ما يجري اليوم أكثر من حرب على غير جهة. فلوجستياً وميدانياً، تتابع المقاتلات الروسية من نوع «السوخوي» و «الميغ»، وفي حراك جوي نشط، تعقب مواقع تجمع مقاتلي «داعش» وتوجيه ضربات مباشرة لها، فيما تقول أوساط المعارضة السورية على اختلافها أن القصف الجوي الروسي يطال مواقع المعارضة وبعض المدنيين. أما الجانب الآخر، فيتمثل بالتحركات الديبلوماسية الدولية، بحثاً عن حل سياسي لتجنيب سورية المزيد من مآسي ودمار الحرب.
لكن السؤال المحوري هو: هل بالإمكان التوصل إلى سلام شامل مع كل هذه التدخلات والمداخلات من كل حدب وصوب؟
وفي محاولة للرد، يبرز المعطى التالي: إن السلام في سورية سيكون صعباً بل ربما أصعب من كل الحروب التي شهدتها سورية والتي يمكن أن تشهد المزيد منها.
أما القضية الخلافية الأخرى والتي يجري التعرض لها ضمناً فتختصر بالتالي: هل يمكن الفصل بين النظام ورأس النظام، وكيف؟ والدافع إلى طرح هذا السؤال يعود إلى غير مثال وتجربة.
المثال الأول: مع عملية الغزو الاميركي والبـــريطاني للعراق، أقدم أول حاكم اميـــركي معين (بول بريمر) وفي أول قراراته على تسريح جميع أفراد الجيش العراقي. وكان هذا الإجراء قاتلاً ومدمراً للوضع العـــام في العراق وخاصة للقوات الاميركية والبريطانية التـــي تعرضت لعديد الهجمات قبل الاضطرار إلى إكمال انسحابها (على رغم اضطرار الرئيس باراك اوباما إلى إرسال خمسمائة عنصر كمستشارين للقوات العراقية، كما تؤكد واشنطن).
المثال الثاني: خلال وجود الوزير سيرغي لافروف في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، طرح عليه السؤال: لماذا أنتم متمسكون بالرئيس بشار الأسد؟ فأجاب: دعني أجيبك بطرح بعض الأسئلة: هل العراق في وضع أفضل بعد رحيل صدام حسين؟ وهل ليبيا في وضع أفضل بعد رحيل معمر القذافي؟ وأضاف: هل أجيبك عن سؤالك؟ وما يريد وزير خارجية روسيا قوله إن رحيل الأسد ليس الحل للمأزق في سورية.
وعلى رغم أهمية كل هذه التحركات الدولية لحل الأزمة السورية، لوحظ في الزيارة المفاجئة للرئيس الأسد إلى موسكو ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين، أنه كان وحيداً ولم يرافقه أي مسؤول آخر. وفي هذا السياق يمكن إيجاز «الاجتهادات» التي قام عليها تدخل الطائرات الروسية عبر النقاط الرئيسة التالية:
يؤكد بوتين أن الهدف الوحيد من العملية العسكرية إحلال السلام، وأننا نرى ما تشهده المنطقة من تراكمات وخلافات عرقية ودينية وسياسية وقضايا اجتماعية حادة طوال عقود، بل ربما قرون. ويغمز الرئيس السوري من قناة شركائنا الاميركيين في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، إذ يقول انه لم تظهر نتائج ملموسة للتدخل الاميركي.
ويسخر بوتين من تقسيم الإرهابيين «معتدلين» و «غير معتدلين» ويقول أنه أمر غير صحيح، لأن جميعهم أعداء الحضارة البشرية، ويضيف: أريد أن أفهم ما الفارق، فلعله يتمثل بما يقوله الخبراء من أن «المجرمين المعتدلين» يقطعون رؤوس ضحايا بأعداد معتدلة أو بطريقة رقيقة؟
ويعتبر بوتين أن الولايات المتحدة تخدع روسيا والعالم بأسره بحديثها عن التهديد النووي الإيراني ويضيف: الأمر لا يكمن في تهديد نووي خيالي لم يوجد أبداً وانما هي محاولة تدمير التوازن الاستراتيجي وتغيير توازن القوى لمصلحة واشنطن، ليس للتغلب فحسب وانما للحصول على إمكان إملاء إرادتها على الجميع، سواء كانوا منافسيها الجيوسياسيين أم في رأيي حلفاءها!
يبدي الرئيس الروسي استعداده لتنسيق «أعمالنا العسكرية مع شركائنا الغربيين للقضاء علـــى الإرهاب»، ويشير إلـــى انـــه لا بد من توحيــد الجيشين السوري والعراقي وفصائل المقاومة الكـــردية للقضاء على الإرهاب، «كذلك لا بد من الفصل بين الإسلام الحقيقي وتلك الكراهية التي يزرعها الإرهابيون، وستقدم المساعدة لجميع الدول التي يهددها الإرهابيون».
وهذا تصريح خطير من جانب بوتين الذي يطرح الدعوة التالية:
«علينا أن نبدأ اعتباراً من الآن، بالتفكير في إعادة إعمار منطقة الشرق الأوسط اقتصادياً واجتماعياً، ولكن لا بد من وضع خريطة طريق لإعادة بناء الشرق الأوسط لوقف تدفق اللاجئين إلى اوروبا». ويختم «مطالعته» حول التدخل عسكرياً في سورية بالتنديد باللعبة المزدوجة للغرب حيال الإرهابيين، وأن سورية «يمكن أن تصبح نموذجاً لحل القضايا المشتركة».
وبالعودة إلى اجتماعات فيينا: حرص وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على القول غير مرة إنها فترة «اختبار نوايا» لروسيا وإيران وسيُبنى على الشيء مقتضاه».
وبعد…
تساءلنا في المقال السابق، ما إذا كان التدخل العسكري الروسي عاملاً يعجل في تقسيم سورية أم تأخير هذه العملية («الحياة» السبت، 17/10/2015).
ويرتكز طرح هذا السؤال الكبير والذي يتحدد فيه وعبره مصير سورية وغيرها من دول المنطقة، على التوجه التالي:
إن المعارضات السورية لم تقدم حتى الآن بديلاً مقنعاً للمشاركة في السلطة مستقبلاً، وإذا ما استمرت هذه المعارضات في المطالبة بمطالب معينة لن يقبل بها النظام، ففي تقدير مراقبين متابعين عن كثب للشأن السوري، سيكون أمام الأسد «العذر» كي يستقل بجزء من سورية ويعلن سلطاته عليه.
أما القسم الآخر من سورية، فسيكون موضع نزاع وصراع مريرين بين «داعش» و «جبهة النصرة»، كما يمكن أن تنشأ أطراف جديدة مقاتلة وعندها يصبح جزء من سورية تحت وصاية وحكم الأسد وأنصاره ومواليه، فيما تكون الأجزاء الأخرى مسرحاً لصراع كبير قد لا ينتهي في وقت منظور.
هذا هو التصور الذي يضعه بعض الخبراء المتابعين عن كثب للشأن السوري.
في هذا الوقت، لوحظ منذ تدخل الطيران العسكري الروسي عملياً في سورية، أن الجيش السوري النظامي بدأ بالتحرك بحرية أكبر وأوسع من السابق، وهو يحقق بعض الإنجازات. ومن هنا يأتي الكلام عن أن التدخل الروسي خدمة للنظام، بقدر ما هو حرب كاسحة على الإرهابيين من أي حدب وصوب أتوا.
وفي الكلام الأخير: إن تقرير مصير سورية سلماً أو حرباً سيغير واقع العديد من دول المنطقة المجاورة. ذلك أن التقسيم الذي يقتنع البعض بحدوثه آجلاً أم عاجلاً، لن يقتصر على سورية فحسب. ومن هنا مقولة: إن سورية الجديدة سترسم الخريطة الجديدة للمنطقة برمتها.
قال وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف مع وصوله إلى فيينا التي يعرفها جيداً (من مفاوضات الملف النووي): لا يمــكن التوصل إلى إحلال السلام في سورية، من دون إيران. ولذلك نقول: إن سلام سورية سيكون أصعب من الحروب التي تشهدها.