فيما تتباكى وسائل الإعلام العربيّة على اللاجئين السوريين القابعين في مخيّمات الذلّ والتشرّد وسط الصقيع والثلوج، فيما يواصل من تبقّى من المحاصرين في مناطق شرق حلب الزّحف فوق الثلوج للمغادرة باتجاه مجهول لا يقلّ قساوة عمّا عاشوه في أيام القصف الروسي ووحشيّة الميليشيات الشيعيّة الإرهابيّة، في وقتٍ لو صرف رُبع ما صرفت هذه المحطات من أثمان السلاح الذي زُوّدت به الفصائل السوريّة المتناحرة فيما بينها، لوفّرت على هؤلاء اللاجئين معاناتهم في مخيّمات اللجوء، ولكانت آوتهم في صحاريها الشاسعة وعلّمت أبناءهم واستفادت من طاقاتهم، ولكن ما جدوى الكلام والعرب يحبّون الرّثاء والوقوف على الأطلال، وما أكثر أطلال سوريا وشعبها هذه الأيام!!
المحزن في المشهد السوريّ كلّه هو بقاء بشار الأسد الذي ورث سوريا وشعبها وكأنّهم عقار، ومضى بسيرة عائلته بإعمال القتل فيهم، كأنّ هذه العائلة قدر هذا الشعب المنكوب بها، والمحزن أن صراع السوريين ومعارضاتهم فيما بينهم البعض وانقلاباتهم على بعضهم البعض هي التي أمكنت هؤلاء منهم، فما زادوهم إلا فرقة وتشرذماً، وكل هذه البلايا لم توّحد المعارضات السورية رأفة بما تحمله الشعب السوري من تقتيل وتنكيل!
ما أشبه يوم حلب بذاكرة حماة، وبمصير ذاك الشاب الشاعر الذي قتلته قصيدته، كثيرون لم يسمعوا باسم «حسن الخيّر» فتعتيم النظام الإرهابي فُرض على قصته وقصيدته بسبب الحساسية التي سببها لعائلة الأسد كونه ينتمي إلى إحدى أكبر العائلات في مدينة القرداحة، «حسن الخيّر» كان شاعراً انتسب إلى حزب البعث في شبابه وبلغ من حماسته «البعثيّة» أن سمّى ابنه «بعث»، وعندما شهدت سوريا الكثير من حوادث القتل والاغتيالات الدمويّة في أواخر السبعينات كان من بين من قتل صديق للشاعر، وفي ذكرى تأبين الصديق المقتول ألقى «حسن الخيّر» قصيدة هاجم فيها حزب البعث ورفعت الأسد بشكل مباشر كما تطرق لحماة وما يحدث فيها ولحلب واللاذقية، وانتشرت القصيدة وتناقلتها ألسنة الناس فتمّ اعتقال الشاعر من أمام منزله في ذلك العام ولم يره أهله بعدها حياً أو ميتاً، وتسربت أخبار من سجناء آخرين بأنهم قالوا إنّهم شهدوا إعدامه وأن الأمن قام بقطع لسانه قبل الاعدام، على عادة نظام الإرهاب الذي اقتلع حنجرة ابراهيم القاشوش بلبل الثورة ومحفّز تظاهراتها السلميّة سابقاً!!
ما زالت قصيدة «حسن الخيّر» تتطابق مع واقع الشعب السوري المقتول، وما زالت تساؤلاته تمزّق ضمير الأرض والسماء، وتترنّح كلماته بعد أربعين عاماً ساخرة من بساطة ظنّها في ذاك الوقت أنّ أرض سوريا الظمأى سيسقيها الغيثُ يوماً ما وستنجلي عنها نكبة هذه العائلة، في لحظة يبدو فيها العالم كلّه قد استسلم لبقاء بشار الأسد وصدّق أكذوبة انتصاره برغم كلّ جرائمة!! أمّا «حسن الخيّر» الشاعر الشاب الذي كان طليعة الثورة التي انهزمت في «مشهدها الأوّل» في السبعينات ننشر قصيدته مرثاة جديدة لكلّ المدن السوريّة المدمّرة على مرأى وبتواطؤ من كل دول العالم خصوصاً منها عربُ ذاك وهذا الزمان: «ماذا أقول وقول الحق يعقبه/ جلد السياط وسجن مظلم رطب/ وان كذبت فإن الكذب يسحقني/ معاذ ربي ان يعزى لي الكذب/ وان سكت فان الصمت ناقصة/ إن كان بالصمت نور الحق يحتجب/ لكنني ومصير الشعب يدفعني/ سأنطق الحق ان شاؤوا وان غضبوا/ عصابتان هما: احداهما حكمت/ باسم العروبة لا بعث ولا عرب/ وآخرون لباس الدين قد لبسوا/ والدين حرم ما قالوا وما ارتكبوا/ عصابتان أيا شعبي فكن حذرا»/ جميعهم من معين السوء قد شربوا/ أيقبل البعث ان تثري زعانفه/ باسم النضال ثراء ما له سبب/ من أين جاؤوا به حقا وجلّهم/ ما زانهم أبدا علم ولا أدب/ ولا تشقق كف فوق معوله/ في الحقل يوما ولا اضناهم التعب/ ولا تجلى على ايدهم هدف/ ولا تحررت الجولان والنقب/ هل السماء بكت من فوقهم فرحا»/ فراح يهطل منها المال والذهب/ لا تكذبوا إنها اموال امتنا/ ومن غذاء بنيها كل ما سلبوا/ كم قد سمعنا بهيئات تحاسبهم/ لتسترد إلى الجمهور ما نهبوا/ فما رأينا سوى قول بلا عمل/ كم في تصرفهم من عجبة العجب/ علا برتبته (لصٌّ) ورتبته/ من سوئه انخفضت.. ولتخجل الرتب/ اني لأخجل ان أحصي معائبهم/ أنّى ذهبت تجلى العيب والعطب/ قالوا: النقابات قلنا: انها كذب/ كم لعبة بمصير الشعب قد لعبوا/ اختاروا لكل قطاع لاعبا» حذقا»/ ونصبوه نقيبا» بئس من نصبوا/ ومجلس الشعب كل الشعب يعرفه/ ويعرف الناس هل جاؤوا أم انتخبوا/ قالوا: وجبهتنا؟ قلنا: لقد صدقوا/ يوم البيان بما قالوا وما كتبوا/ اذ قال قائلهم: انّا سماسرة/ نمشي كما يقتضيه العرض والطلب/ لم يصدقوا بحديث غيره ابدا/ وما عداه لعمري كله كذب/ سيعلمون جميعا أي منقلب/ يوم الحساب وما فيه هم انقلبوا/ قالوا حماه عماها الحقد فاضطربت/ يا للعجب عرين البعث يضطرب/ لو يذكرون حماة الامس ما فعلت/ بالظالمين وبالاقطاع لانتحبوا/ كانت وكان بنوها خير من رفعوا/ للبعث راياته خفاقة تجب/ لما رأوكم نكبتم عن مبادئكم/ فإنهم شرفا» عن حبكم نكبوا/ ألم تكن حلب الشهباء ساحتهم ؟/ ألم تدكي كيان الفرد يا حلب/ ألم تثوري بوجه الانفصال؟ وهل/ أغضى على عاره ابناؤك النجب/ واللاذقية مهد البعث ما فعلت؟/ حتى اثير على ساحاتها الشغب/ مباحث السوء شاؤوا ان تشب بها/ نار الخلاف وقد أغراهم اللهب/ قالت لهم وجراح الحزن تؤلمها/ لا تحلموا بخلاف كلنا عرب/ أل الفقيد عزاء أن محنتكم من/ محنة الشعب لا تجدي بها الخطب/ لئن نكبتم بحر صادق فطن/ فحسبكم ان كل الناس قد نكبوا/ يرضى فقيدكم دربا يوحدنا/ وليس يرضى إذا تاهت بنا شعب/ سيسقط الغيث في ارضي وقد/ ظمئت وينجلي الليل والسحب»…