دخل الثامن من الشهر الجاري التاريخ من بابه المشرّف، اذ شهد هذا اليوم سقوط النظام السوري، مُنهياً عقودًا من الحكم الديكتاتوري الذي أنهك سوريا والمنطقة بأسرها وفتك بالسوريين قتلاً وتعذيباً وتدميراً وتهجيراً. ليس سقوط بشّار الأسد مجرد نهاية لنظامٍ أقليّ تمحور على شخصٍ واحد وعائلةٍ واحدة وحزبٍ واحد، بل هو انعكاس لتحولات أعمق تُعيد تشكيل المشهد الإقليمي وتوازناته. في هذه المعادلة الجديدة، تتشابك المصالح الدولية والإقليمية بشكل معقّد، وتلوح فرص وتبرز تحديات تفرض نفسها على دول المنطقة، ولبنان من بينها، كدولةٍ قادرةٍ على استعادة دورها الطبيعي إذا أحسن المسؤولون فيها قراءة المتغيّرات والتعامل معها بوطنيةٍ وواقعيةٍ.
إيران، الحليف الأوّل لبشّار «الفار» من وجه شعب سوريا الحرّ، تجد نفسها اليوم أمام واقعٍ جديد، فرض عليها اعتماد سلوك يُشبه سلوك «القطّ الفارسي الأليف» بهدوئه وتحفظّه وتفضيله الانسحاب والتراجع بدلاً عن مواجهة الخطر. تحاول طهران امتصاص الصدمة والتعاطي مع المتغيّرات دون خوض مواجهاتٍ مباشرة أكثر تشبّعاً من طاقتها النووية وأكثر تشعّباً من طريق القدس، مدركةً أن انخراطها العميق في الصراعات الإقليمية الخاسرة والعقوبات المفروضة عليها أرهقت اقتصادها وأضعفت نفوذها لا بل أصبحت تهدّد وجودها. فمع تصاعد الضغوط العسكرية والاقتصادية والتحوّلات الخارجية والتحدّيات الداخلية، تسعى إيران إلى إعادة ضبط استراتيجيتها الإقليمية بما يضمن الحفاظ على الحدّ الأدنى، ليس من نفوذها الاقليمي، بل من استقرارها الداخلي، وتلافي الدخول في مواجهاتٍ مُكلفة، مدركةً حجم خسارتها الاستراتيجية مع انشطار محور الممانعة وفقدانه لمناعته وانقطاع شرايينه، بحيث أن شعار «وحدة الساحات» إنهار ليس فقط على وقع توسّع الضربات الاسرائيلية من ساحةٍ الى أخرى والتي حولّت هذا المحوَر الى «محور الساحات المتتالية»، بل على وقع الحدث السوري العظيم الذي بيّن أن الديموغرافيا أبقى من الايديولوجيا وأن الحقّ أقوى من الاستبداد وأن صوت الحرية أعلى من أنين المعتقلات، وأن آذان المسجد الأموي سيبقى أصدح من دويّ البراميل المتفجّرة معلناً أن فجر الشام قد بزغ من جديد.
روسيا، التي تدخلت لإنقاذ الأسد منذ العام ٢٠١٥، تواجه بدورها تحدّيات تفرضها حرب أوكرانيا واستنزاف قدراتها العسكرية والاقتصادية، ورغبتها في الاستفادة من عودة الرئيس الاميركي دونالد ترامب لإنجاز تسوية تُنهي تلك الحرب. موسكو باتت أكثر ميلًا للبحث عن حلولٍ تحفظ مصالحها الاستراتيجية في سوريا وتُتيح لها الاحتفاظ بنفودها على الساحل السوري بأقل تكلفة ممكنة، وحتى هذا الأمر يبقى غير محسوم لا بل حتى مستبعداً. هذا التراجع الروسي يفتح الباب أمام قوى أخرى للتغلغل في سوريا، خصوصًا تركيا التي تسعى لترسيخ دورها كقوة إقليمية فاعلة من خلال تعزيز نفوذها شمال سوريا وضمان أمن حدودها من التهديدات الكردية، فضلاً عن تبنّيها غير المتحفّظ للعمل العسكري الذي قادته جبهة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني والذي أطاح بنظام الاسد بسرعةٍ قياسية. يبقى أنه على تُركيا أخذ العبر ممّا حلّ بالنفوذ الفارسي في المنطقة وأن تُدرك العمق العربي الحتمي لسوريا بعد سقوط الأسد وألا تبني على أنقاض هذا السقوط، أحلاماً توسّعية ستكون أشبه بالأوهام.
على الطرف الآخر، تلعب الولايات المتحدة دورًا دقيقًا في موازنة مصالحها بين دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كحليفٍ استراتيجي في مواجهة تنظيم داعش، وبين تجنّب إغضاب تركيا، شريكتها اللدود في حلف الناتو. هذا التوازن الأميركي يُبقي الوضع في شمال سوريا معلقًا، حيث يبقى الوجود الكردي لاعبًا محوريًا لكن بمستقبلٍ غير محسوم، خاصة في ظل التطورات المتسارعة إقليميًا والزخم الذي أحاط بالتحرّك العسكري لجبهة تحرير الشام بقيادة «أبو محمد الجولاني» أو بشكلٍ أدق أحمد الشرع الذي يبدو أنه في تحرّكه هذه المرة يحمل مشروعاً لحكم سوريا وليس مشروع حرب أهلية وهو ما تبدّى من تأكيده الحرص على استمرار مؤسسات الدولة واجتماعه مع رئيس حكومة النظام محمد غازي الجلالي قبل اعلان تشكيل حكومةٍ انتقالية مؤقتة برئاسة محمد البشير.
في ظلّ هذا المشهد المتشابك، تواصل إسرائيل فرض واقعٍ جديد، حيث استغلّت الانشغال الاقليمي والدولي بسقوط الأسد لتعزيز سيطرتها على الجولان المحتل وتوسيع المناطق التي تحتلّها والسيطرة على المنطقة العازلة واعلان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أن هضبة الجولان ستظلّ اسرائيليةً الى الابد، فضلاً عن تنفيذها مئات الضرباتٍ الجوية على مواقع استراتيجية في العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية، ما يُظهر حجم الاستثمار الاسرائيلي للفراغ الناتج عن ضعف ما تبقى من الممانعة بعد سقوط نظام الاسد، اذ بات هذا المحور أضعف من أن يواجه مثل هذه التحدّيات، بعد أن كانت إيران تُهدّد بإزالة اسرائيل من الوجود وتورّطت طيلة سنوات في مساعدة نظام الأسد على قتل شعبه تحت شعار «مواجهة التكفيريّين».
وفي حين كانت المملكة العربية السعودية عبر بيان وزارة خارجيّتها أوّل من أدان العدوان الاسرائيلي على سوريا واحتلال أجزاءٍ جديدة من هضبة الجولان مؤكدةً أنها أراضٍ عربية محتلّة، كان وزير خارجيّة إيران عباس عراقجي منشغلاً عن هذه الاعتداءات في احصاء الخسائر الاستراتيجية لإيران والحديث عن «الأوقات الصعبة» التي يمرّ فيها المحور محاولاً فتح قنوات تواصل مع فصائل المعارضة السورية.
وسط هذه التحولات الكبرى، تبرز أمام لبنان فرصة تاريخية لإعادة ترتيب أولوياته وتنقية علاقاته العربية والدولية وتحديد موقعه أو بشكلٍ أدقّ تحييد هذا الموقع عن سياسة المحاور، فهو لم يعُد مضطرًا للبقاء بين فكّي محور الممانعة «دمشق وطهران» بعد كل النهش، الذي تشاركتا فيه طيلة خمسة عقود، للجسد اللبناني. فهذا المحور الذي خسِر أحد فكيّه فيما نخر السوس فكّه الآخر فقد الكثير من قوّته ومن مصداقيّته وبات عبئًا أكثر من كونه مصدر دعمٍ حتى على البيئة الشيعية في لبنان وبيئة حزب لله تحديداً التي لم تتقبّل حتى اللحظة تعامل طهران مع اغتيال السيد حسن نصر لله وما يمثّله من رمزيةٍ استثنائيةٍ لهذه البيئة، وكأن الموضوع مجرّد لعبة شطرنج تُحرَّك فيها البيادق بأصابع اللاعبين أو المتلاعبين بمصائر غيرهم، وكلّما سقط ملكٌ أُعيد ترتيب أحجار اللعبة لجولةً أخرى وخسائر جديدة .
فمع تغيّر المعادلة الإقليمية، يستطيع لبنان اليوم أن يتّخذ خطواتٍ نحو تعزيز علاقاته بمحيطه العربي، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، التي لطالما كانت داعمًا أساسيًا لاستقراره الاقتصادي والسياسي، وتبدو اليوم الفرصة متاحةً أمام طائر الفينيق اللبناني للنهوض من رماد نيران حروب الآخرين على أرضه والتحليق عاليا ً وبأمان في فضاء الصقر العربي الذي يحمل رؤية «السعودية ٢٠٣٠» والقادر على صياغة رؤية مناسبة للبنان تُخرجه من حالة الركود والتدهور وتضعه على سكة النهوض والتطوّر، شرط أن يحسم اللبنانيون أمرهم ويختاروا ما يريدونه لأنفسهم ولوطنهم وليس ما يُريده الآخرون لهم وللبنان.
في الواقع تُظهر السياسة السعودية في السنوات الأخيرة بقيادة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رغبةً واضحةً في تحقيق الاستقرار الإقليمي وتسريع عجلة التطوّر والنموّ بعيدًا عن الصراعات الأيديولوجية الهدامة. التوجّه السعودي هذا يوّفر للبنان نافذة أمل لاستعادة مكانته كجسر تواصل بين الشرق والغرب، بعيدًا عن سياسات المحاور التي استنزفته. التعاون الاقتصادي والاستثماري والثقافي والسياحي مع الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية يمكن أن يُعيد الحيوية للاقتصاد اللبناني، ويمنحه فرصةً للنهوض بعد كمٍّ من الأزمات المتكررة.
أما على المستوى الداخلي، فإن انكفاء محور الممانعة وتراجع حدّة التصريحات الايرانية، التي تبدو مؤخراً أقرب الى حنين «النوستالجيا» منه الى التمسّك «بالايديولوجيا»، يُخفّف من الضغوط التي كانت تُمارس على لبنان للانخراط في صراعات إقليمية أشدّ تأثيراً ممّا تحتمله مناعته الداخلية. حزب لله، الذي كان جزءًا أساسيًا من هذا المحور، مدعو اليوم لإعادة النظر في مواقفه خاصةً بعد سقوط الاسد والواقع العسكري والأمني الجديد في جنوب لبنان بعد التوصّل لاتفاق وقف إطلاق النار مع العدوّ الاسرائيلي، والانخراط أكثر في اللعبة السياسية الداخلية بعيدًا عن المهمّات العابرة للحدود، فالحفاظ على بيئته الحاضنة ونموّها واستقرارها وتجنيبها حروباً جديدة قد يكون أهمّ سلاح جدير بالحفاظ عليه اليوم.
في المحصّلة، يُشكّل سقوط الأسد، وما سوف يليه من تغيّراتٍ إقليمية، فرصةً للبنان للعودة إلى سياسته الآمنة والقائمة على «النأي بالنفس» ليس عن التفاعل الايجابي والبنّاء مع محيطه العربي بل عن انخراطه السلبي والمدمّر في الصراعات الاقليمية التي استنزفته لسنوات. فعلى الرغم من أنّ المشهد الإقليمي الجديد يبدو مضطربًا، الاّ أنه في قلْب هذا الاضطراب الذي قلَب المنطقة رأساً على عقب تكمن فرصة اللبنانيين في استعادة التوازن لبلدهم وتحقيق الاستقرار الداخلي فيه وفي علاقاته مع الدول العربية. ولا شكّ أن نجاح لبنان بكل فرقائه في قراءة المتغيّرات واتخاذ القرارات الصائبة، ستمنحه موقعاً ملائماً في منطقةٍ تتشكّل من جديد، شرط الاستفادة من الفُرص التي لا تأتي دائماً مغلّفةً بأوراق الهدايا بل أحياناً تكون مختفيةً في ثنايا التحدّيات وتحتاج الى عينٍ ثاقبة تلتقطها ويدٍ ثابتة تقتنصها وعقلٍ راجح يستثمرها بحكمةٍ وحنكةٍ.
«راجح»