Site icon IMLebanon

نادوني “فأرة”… أوقفوني عارياً… وابنتي الصغرى رفضتني

 

13 عاماً معتقلاً في السجون السورية

 

يضحك ويبكي. يبتسم ويعبس. يحكي عن كل الوجع والقهر والضرب والجلد وتجريده من كرامته ثم يقول: كتر خير الله. هو أبو يوسف (مصطفى خليل شمس الدين) الذي اعتقل في جهنم الحمراء السورية 13 عاماً ولم يستطع، بعد مرور 23 عاماً على خروجه، أن ينسى. وهل ينسى من سُلبت كرامته ووُصف بالفأرة وتبلّلت وسادته دموعاً في ليالي العذاب الطويلة؟ وهل المجتمع، بعد ولادته من جديد، كان أكثر رحمة؟

 

أخذوني من منزلي. حصل ذلك مساء الثالث من كانون الأول عام 1985. وبدأت الجلجلة. ليلتي الأولى أمضيتها في البوريفاج. يقف، يمشي قليلاً، يرتشف قليلاً من القهوة. ينظر في قلب فنجانه كمن اعتاد أن يقرأ في التفل مصيره وهو يعدّ الأيام ويبتسم. لا نعرف إذا كانت تلك هي ابتسامة حقيقية. نسأله عنها، فيذرف الدموع. نسأله عن دموعه فيبتسم. أبو يوسف يأبى على الرغم من كل العذاب الذي تعرّض له في السجون السورية أن يُظهر ضعفه. ولا شيء يجعله ضعيفاً سوى إصرار معتقليه على وصفهم صغر جسده ونحوله بالفأرة. كانوا يضربونه بشدة. كانوا يحطّمون أصابعه وأضلعه وحين يصرخ: آخ، يقولون له: «قدّك قد الفارة وصوتك ملّا الحارة». ويضحكون. أذى نفسيّ أقسى من الأذى الجسدي. يبلع ريقه ويقول ما معناه: إياكم ثم إياكم السخرية من كرامات الناس وأشكالهم.

 

تهمته كانت التعامل مع حزب البعث الإشتراكي ونقل رسالة من صهره في العراق إلى صهره في سوريا. الصهران كلاهما ماتا اليوم قبل أن يعرف هو فحوى تلك الرسالة التي جعلته يشرب زوم الزيتون. هي جلجلة كل الكلام لا ينفع في التعبير عنها. هو اعتقال تسقط عند أبوابه كل حقوق الإنسان.

 

الرحلة إلى جهنم

 

فلنتابع رحلة عذابه. فلنسمعه يتحدث عمّا حاول عبثاً نسيانه: «نقلوني من البوريفاج صباح اليوم التالي إلى عنجر. كان ممنوعاً علينا رؤية الشمس. كانت عيوننا مغمضة ورؤوسنا نحو الأرض. أربعة أيام أمضيتها هناك في مهاجع (غرف) تنتصفها ساحة واسعة تحصل فيها عمليات التعذيب. كنت أسمع الصراخ والبكاء وأنين الوجع والظلم ونلت منها ما نلت. أخذوني بعدها إلى فرع المنطقة وكانوا يسبقون التحقيق بتوقيفي معصوب العينين ومكبل اليدين نحو ساعتين وهم يلعبون كرة الطاولة. وكل طابة كانت تدخل أذني ثم قلبي كسكين حادة. نقلوني لاحقاً إلى سجن تدمر وهناك عشت جهنم على الأرض. هناك يستقبلون المعتقل بخمسمائة جلدة كرباج. نسأله: هل فكرت بعائلتك وبأطفالك الأربعة يوسف ولينا ووسام ورانيا وأنت في جهنم؟ يجيب «نسيتهم». يبتسم ثم يعود ليذرف الدموع.

 

يتذكر يوم التقى أول مرة، بعد سبعة أعوام من الإعتقال، بزوجته عايدة وشقيقته: «تجمدتُ في مكاني ولم أستطع أن أنطق بحرف». ويتوقف من جديد عن الكلام. تطل زوجته. تقدم القهوة. تنظر إليه وتقول: عانى أبو يوسف الأمرين وشربونا العلقم. نحاول أن نغوص مع أبو يوسف في علاقته مع المجتمع بعيد خروجه من الإعتقال. نحاول أن نسأله عن أول مرة رأى فيها شمس الحرية. نحاول أن نسأله عما إذا كان دور الإنسان ينتهي إجتماعياً بعد 13 عاماً من الإعتقال القسري، لكنه يصرّ على البقاء هناك في سجون المنطقة وتدمر وصيدنايا. فهل نفهم من ذلك أنه ما زال «نفسياً» هناك؟

 

هو صاحب نكتة، يحاول أن يجيب بها عن كل سؤال لكن مشاعره لا تلبث أن تخون محاولاته. هو خرج إلى المجتمع بلا أسنان. تساقطت أسنانه تباعاً مع كل صفعة تلقاها في الإعتقال. إبنته الصغرى خافت في البداية منه. خرج أبو يوسف هزيلاً جداً وهو الموصوف في الإعتقال «بالهزلي». خرج إلى الحرية لكنه استمرّ معتقلاً بسيل من الذكريات. إبنته لينا قالت عنه بعدما نقلت من غرفة والدتها التي كانت تنام فيها: «شو بدو هيدا منا… ليش رجع؟»؟ وجوه أصدقائه تغيرت. هناك من ابتعدوا عنه وهناك من حاولوا الإقتراب أكثر منه. 13 عاماً في جهنم تغيّر الإنسان كثيراً فلا عاد هو هو ولا يعود الناس أنفسهم. يوم خرج من سجنه كان قد فقد عمله. مخابرات الجيش طلبت منه أن يأتي كل يوم إثنين بلائحة عن الأسماء التي التقى بها طوال الأسبوع وهذا ما جعله يبتعد عمّن بقي من الأصدقاء. رأى نفسه وحيداً. رأى نفسه ضائعاً. صار يمشي على الطرقات بلا هوادة. وذات يوم، وهو ينتقل بسيارة أجرة، فكّر: لماذا لا أشتري لوحة عمومية وأعمل سائقاً؟ إبنته ساعدته وها هو لا يزال يعمل حتى هذه اللحظة، وهو ابن ثمانين عاماً، سائق أجرة. فهل يجوز ذلك؟ نسأله ذلك فيجيبنا بلغة الحسم التي يستخدمها: الإبتسامة.

 

ماذا عن دور الدولة اللبنانية؟ ألم تبالِ به؟ هل اعتبرته غير موجود؟ يجيب: «جلت مع أصدقائي الذين حالهم كما حالي على كل «الحراميي»، عفواً على كل المسؤولين الكبار، ووعدونا ولم يفوا. ويستطرد: حتى في الضمان الإجتماعي لم يسجلوني في البداية.

 

أكثر ما يزعجه أن يأخذ «حسنات» من أولاده. صحيح أنهم ساندوه دوماً، لكن كل قرش يأخذه منهم يجعله يشعر بالقهر الشديد. ويقول: هناك رفاق لي كانوا في الإعتقال يشحذون الآن. ريمون واحد منهم. ريمون مهمش إجتماعياً في «حريته» بعدما نُكل به، في الإعتقال، حدّ الموت بعينين مفتوحتين. ويستطرد: هناك أكثر من 500 معتقل من رفاقي ما زالوا هناك. إلى هؤلاء أقول: إتكلوا على الله لأن لا دولة تتكلون عليها. خلوا إيمانكم به. صلّوا. فكلما اقتربتم من الله أكثر أصبح كل الوجع الذي أنتم فيه أسهل. هذا ما فعلته أنا. تلك هي وصفتي التي جعلتني أصمد. أما لمن فقدوا إنسانيّتهم وفعلوا كلّ ما فعلوه بي وبرفاقي أقول: حرام عليكم كل ما قمتم به. دخلت إلى المعتقل ظلماً بعمر أربعين عاماً، في عزّ عطائي، وحرمتموني من أطفالي. خطفتموني من حياتي ظلماً وعدواناً. دمّرتم عمري كلّه. فيا لكم من ظالمين!

 

لا أحد يستطيع أن ينقل عمق معاناة أبو يوسف، ربما لأنه هو من يحاول أن يستهزئ قصداً بتفاصيلها علّه ينتصر على كلّ من ظلموه. هو لم يقل ذلك لكنّه روى قصة تعكس ذلك: «ذات مرة أبرحوني ضرباً في سجن تدمر وراحوا يضربون كل إصبع من أصابعي العشرة بما يُشبه الشاكوش. تكسّرت كلها. لكنني لم أبك. لم أصرخ. لم أقل حتى كفى. أردت أن لا ينتصر السّجان عليّ من خلال ضعفي. ويومها ربحت أنا».

 

الكرامة أولاً

 

فلسفة أبو يوسف كانت على الدوام: حافظ دائماً على كرامتك من التهميش وعلى عقلك من الإستخفاف به. وهو عاش الأمرين وفظاعة فقدان كرامته والإستخفاف به حتى النخاع. كان السّجانون يضعونه مع رفاقه عراة في العراء. تصرُّف فظيع حقاً. وكانوا يفرحون كثيراً حين يرونه يعاني من الجرب ويقولون عنه: هذا هو الجربان. قهر ما بعده قهر جعله ينسى حتى شكله.

 

سمُّوه الهزلي لأنه كان يُضحك الجميع. ومن كان يُضحكه هو؟ يجيب: «كانت وسادتي «تتش» دموعاً ليلاً وحين يطلع الفجر أعود قوياً. واليوم، بعد 23 عاماً على حريّته، يحاول أبو يوسف أن يستمرّ قوياً وهو ينجح غالبا بذلك على الرغم من كلّ المعاناة هناك وهنا. وظلم أهل القربى كما تعلمون أشدّ مضاضة. فالدولة في خبر كان. الدولة لم تكن موجودة يوماً لانتشال ناسها من القهر والذل والوجع. أوليس أخذه من منزله في بيروت إلى داخل المعتقل السوري دليلاً على تخاذلها؟ أليس تصرّفها بتهميشه إشارة إلى ضعفها؟ أليس وجوده طوال 13 عاماً في معتقل غريب (وإن كان يُنعت بالشقيق) إقراراً بأنها مساهمة في تهميش وجود ناسها؟

 

أبو يوسف، الإنسان الطيّب، ابن الثمانين ونيف، سائق التاكسي، المعتقل السابق، «الفأرة» بلسان المجرمين، المهمّش بتصرف الدولة اللبنانية وبعض أناس في الدولة اللبنانية، ما زال يبتسم. هو قرر أن يبتسم ما دام في قلبه نبض. هو يبتسم لعلمه أنه ليس الوحيد الذي لسعته الحياة. وكم هناك من موجوعين مهمّشين في هذه الحياة.