من يُتابع أخبار الخارجين من سجون نظام الأسد، يكتشف أنّ كافة الأخبار والروايات عن حالات التعذيب في المعتقلات لا تساوي شيئاً إذا ما تمّت مقارنتها بمسالخ الأسد. ما عجز كُتّاب الأفلام البوليسيّة والقصص الإجراميّة عن ابتداعه نفذته أيادي الأسد في معتقلات تحوّل فيها نهار المساجين إلى ليل أسود داكن، وسُلخت فيها البشريّة عن مشاعر الإنسانيّة، ما كان يحصل في سجون الأسد حسب ما يروي من دخلها “جهنم حقيقي بصناعة غير بشرية”.
المَشاهد في سجن صيدنايا في ريف دمشق تدمي القلوب وتبرز قسوة نظام الأسد، حبال المشانق معدّة لتنفيذ الإعدامات التي لا تتوقف وسجناء يخرجون زحفاً من وسط الحفر بعد أن صاروا عاجزين عن المشي، وزنازين مكدّسة بالسجناء الأبرياء، إلاّ أنّ الدخول إلى “العنبر الأحمر” أتى كالصاعقة على أهالي المعتقلين الذين ينتظرون خبراً عن ذويهم يبلسم جراحهم، هذا العنبر هو واحد من أكبر المسالخ البشريّة التي عرفها التاريخ وذلك من خلال “مكبس الحديد” الملتصق بآليّة خاصّة لتصريف الدماء البشريّة، لكم أن تتيخيّلوا فقط ما معنى مكبس حديد لكبس أجساد البشر وتصريف دمائها.
لم يمرّ في تاريخ البشرية سلالة إجراميّة كسلالة الأسد، فقصص وعذابات اللّبنانيين داخل سجونها تحتاج مجلّدات ومجلّدات، لكلّ عائلة قصّة ولكلّ معتقل حكاية وجع تقشعرّ لها الأبدان.
“أبو عمّار” من ضابط في “القوات اللّبنانيّة” إلى مُعتقل في سجون الأسد
لم يخطر في بال اللّبناني جورج حنّا الملقّب بـ”أبي عمّار” أنّ طريق عودته إلى منزله في بلدة الفرزل عام 1983 ستقوده إلى دروب من الآلام والعذاب الأليم في معتقل النظام السوري لمدّة عامين، كان شاهداً فيها على عمليات خطف رفاقه وأبناء وطنه وأساليب القهر والتعذيب المبرح التي تمارس بحقّهم.
وبدلاً من أن يعبر “أبو عمّار” طريق العيرون – بكفيّا، تحوّل إلى مُعتقل بسبب انتمائه إلى حزب “القوّات اللّبنانيّة” وفق تصنيف أزلام النظام السوري في لبنان.
بصوت يحمل الكثير من القهر، يستذكر حنّا تاريخ اعتقاله على يد عناصر من القوّات السوريّة، إذ كان عازماً على العودة إلى منزله بأمان، لكن أزلام الأسد أودعوه السجن، ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة التنقّل بين السجون من لبنان إلى سوريا.
تنقّل “أبو عمّار” من مركز للمخابرات السوريّة في بكفيا والذي كان يرأسه آنذاك مدير المخابرات السابق رستم غزالة، إلى عنجر أي عند غازي كنعان وتمّ تعذيبه لمدّة شهرين، بعدها انتقل إلى سجن يسمّى بـ”فرع فلسطين”، وبالتالي لا يمكن لأي معتقل أن يُنقل إلى سجن المزّة أو صيدنايا دون المرور بهذا الفرع.
وتابع، “بعد مرور 7 أشهر من العذاب انتقلنا رفاقي وأنا إلى سجن المزّة حتّى أُطلق سراحنا عام 1985 بعمليّة تبادل معتقلين بين جيش النظام و”القوّات اللّبنانيّة”.
أُمعن التفكير في كلمات “أبو عمّار”، وفي نبرة صوته التي أعادته إلى تلك المرحلة، حين قال بغصّة إنّ أسلوب الحياة التي عاشها أكثر قسوةً من “السلخ” والتعذيب، كاشفاً أنّه كان معتقلاً في غرفة مساحتها 3 أمتار مع 60 شخصاً، وبالتالي لا أحد يستطيع النوم، فعندها قرّروا اعتماد آليّة المداورة وكلّ مجموعة تنام 8 ساعات.
“حاطينك فروج بالفرن”، بهذه العبارة اختصر حنّا مشهديّة الظلم والاستبداد، والطعام في سجون الأسد يمثل جزءاً بسيطاً من المعاناة اليوميّة حيثُ لا يتم تقديم الوجبات الغذائيّة بما يكفي لإشباع المعتقلين وغالباً ما تكون الكميّة غير كافية كنصف بيضة لكلّ معتقل.
ويوجّه حنّا رسالة إلى المعنيين للكشف على سجن تدمر، معتبراً أنّه من المحتمل أن يكون هناك لبنانيون لا يزالون على قيد الحياة.
إجرام الأسد لم يقتصر فقط على اعتقال لبنانيين في السجون السوريّة، فأزلامه قاموا بالواجب أيضاً، من خلال استعمال نفوذهم في الداخل، وكيف لنا أن ننسى معاناة المعتقل والنائب السابق إيلي كيروز.
في حديث لـ”نداء الوطن”، يروي كيروز لحظة اعتقاله، “ففي فترة التحضيرات لأيلول الشهداء، وأثناء تواجده مع أطفاله تمّ توقيفه عل حاجز للجيش اللّبناني، عندها تم”اختطافه” إلى مديرية المخابرات.
“اللبنانيون يستوحون من إخوانهم السوريين طرق التعذيب”، هكذا لخّص كيروز طريقة تعامل النائب الحالي جميل السيّد معه.
أسبوعان كانا مثل الجحيم في مديرية المخابرات، أسبوعان قضاهما النائب السابق تحت التعذيب المفرط إلى أن تمّ نقله إلى حبس رومية لمدّة 4 أشهر حتّى أُطلق سراحه بعدها.
إن كانت النجاة مصير “أبو عمّار” وكيروز، فإنّ أكثر من 300 معتقل يواجهون مصيراً مجهولاً في سجون الجزّار والسفّاح بشّار الأسد، على أمل أن تشرق شمس الحريّة وأن يعود كل معتقل إلى أسرته آمناً سالماً.