تجاوز التدخل العسكري الروسي بقوة نيرانه الهائلة أهدافه المعلنة بأشواط. وأخذ يؤشر إلى حرب طويلة الأمد يخوضها القيصر، لا تتعلق بسورية وحدها، وبما يعلنه عن محاربة «داعش»، بالتعاون مع جيش نظام بشار الأسد، وبتغطية قيام الأخير بهجمات برية لاستعادة مناطق خسرها نتيجة تقدم تشكيلات المعارضة السورية المتعددة فيها.
ولا تكفي التناقضات التي رافقت الحملة الدعائية الروسية للعمليات العسكرية التي تقوم بها المقاتلات الروسية من الجو والتي تشمل إطلاق الصواريخ الباليستية من بحر قزوين مستهدفة الأراضي السورية للدلالة إلى أن هذا التدخل العسكري يتعدى تلك الأهداف المعلنة. وإذا كان الكرملين احتاج إلى ابتكار أساليب إعلامية جديدة لتبرير حملته العسكرية للتغطية على انكشاف التناقض بين الأقوال والأفعال، فإن الإعلام الروسي نفسه وقع في الفخ حين أخذ ينشر خرائط لمواقع القصف، تظهر بوضوح أن القذائف الآتية من طائرات «سوخوي» 24 و25 والتي حملتها الصواريخ استهدفت مناطق تخضع لسيطرة «الجيش السوري الحر»، ولتشكيلات مسلحة أخرى من التي تصنف على أنها «معارضة معتدلة»، وليس لمواقع «داعش» و «جبهة النصرة»، كما ادعى الجانب الروسي. وأعطى ما نشره الإعلام الروسي الموالي للكرملين صدقية لما قاله الأميركيون ورئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو من أن القصف الروسي لم يستهدف سوى موقعين لـ «داعش»، من أصل 57 غارة حتى الثلثاء الماضي.
واحد من المؤشرات إلى الاستهداف الأوسع من سورية وإنقاذ النظام من الانهيار التدريجي بعد فشل التدخل الإيراني في إعانته على التفوق في المحرقة السورية، هو رد فعل حلف شمال الأطلسي واجتماع قادته أمس في بروكسيل. ومن الطبيعي أن تظهر التناقضات في ما يعلنه المسؤولون الروس عن أهدافهم في سورية، حين تتحرش المقاتلات الروسية بالمقاتلات التركية وفي الأجواء التركية، فقادة الحلف فهموا الرسالة، التي أراد بوتين إرسالها بعد فشل اجتماعه مع نظيره الأميركي باراك أوباما في نيويورك في 28 أيلول (سبتمبر) الماضي، حول أوكرانيا، التي استغرق البحث في أزمتها الجزء الأكبر من الاجتماع قبل التطرق إلى الأزمة السورية، والتي لم تشهد أي تقدم في تقريب المواقف منها. فكان طبيعياً ألا يحصل التقدم المنتظر في شأن الموقف من الحرب في بلاد الشام، بعدها.
الهدف الأبعد في رد الفعل الروسي بعد يومين من فشل القمة الثنائية، عبر التحرش بالأجواء التركية، «الأطلسية»، هو إنذار الغرب بقدرة الدب الروسي على الرد على سياسة تعزيز وجود حلف شمال الأطلسي في دول شرق أوروبا وعلى التغلغل الغربي الدؤوب في هذه الدول، التي تشكل المدى الحيوي للإمبراطورية الروسية الغابرة والتي كانت ضمن فلك الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. فهذا التغلغل الأوروبي الغربي المدعوم أميركياً هو الذي دفع بوتين إلى التدخل في جورجيا عام 2008 وإلى اقتطاع القرم من أوكرانيا قبل سنة ونصف السنة، ما أطلق سياسة العزل الأميركية – الأوروبية لروسيا عبر العقوبات التي أنهكت اقتصادها، والمعطوفة على خفض أسعار النفط التي أفقدت موسكو مئات بلايين الدولارات وتسببت بانكماش اقتصادها وتراجع عملتها أكثر من 40 في المئة وتصاعد التضخم في سوقها، إلى مستويات غير مسبوقة منذ انهيار الروبل في التسعينات من القرن الماضي.
ولم تكن موسكو بحاجة إلى الصواريخ الباليستية لقصف ما قالت إنه مواقع «داعش» و «النصرة»، لولا أنها أرادت من ورائها افهام الغرب أنها قادرة من مناطق نفوذها المترامية ومنها بحر قزوين، على تخطي مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، التي تعمل واشنطن على إقامتها منذ سنوات في بعض دول شرق أوروبا.
لا تقتصر أهداف المرحلة الجديدة التي افتتحها بوتين على سورية حكماً، مع أنها تشكل منصة مهمة له للتصويب على الأهداف الأبعد مدى، مع ما يحمله التورط الجديد من مخاطر، فدول الغرب تسلّم لموسكو بنفوذها في سورية، بل بعضها يعوّل على هذا النفوذ وصولاً إلى حل سياسي. وهذا البعض كان على قاب قوسين من القبول معها باشتراك بشار الأسد في بداية الحل السياسي على أن يجري الاتفاق على مخرج له في مرحلة متقدمة من العملية السياسية. بل إن هذا الغرب يسلّم بالتعاون مع موسكو على حقها في استباق عودة المقاتلين الشيشان المتطرفين إلى روسيا. ولم يكن بوتين في حاجة إلى استنفار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتأييد حربه «المقدسة»، مغامراً بإعطاء أبعاد دينية لحربه، لو لم يكن يعتقد أنه يخوض معركة قومية تتعلق بموقع ونفوذ بلاده في أوروبا.