ينعقد مؤتمر جنيف3 حول الأزمة السورية في ظل أجواء ضبابية وتوتر وتعقيدات قلما شهد التاريخ المعاصر للبشرية مثيلاً لها. ذلك أن عوامل عديدة تضغط بثقلها على المؤتمر. فلنقرأ بوضوح وموضوعية الإرث إذا صح التعبير الذي خلفته لنا الحرب السورية المشتعلة منذ خمس سنوات ليس لجهة الدمار الهائل الذي اكتسح البلاد ولا لتعداد هذا الكم المخيف من القتلى والجرحى والمعوقين فحسب ولا حتى عدد النازحين والمهجرين الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، بل تحديداً لجهة محاولة جدية جريئة منا لإدراك ماذا تحمل في جعبتنا من معطيات لا بد من عرضها على طاولة أو طاولات أو غرف المفاوضات توطئة لإخضاعها للنقاش ثم استخراج المقترحات بغية الوصول إلى حل سياسي. فالإرث السياسي والديبلوماسي ثقيل ومشبع بالفشل والإحباط والتعثر والتعطيل. فما دام مؤتمر جنيف3 هو دولي، لا بد لنا من التذكير ببيان جنيف1 عام 2013 (3 حزيران) الناص على «وجوب تشكيل حكومة انتقالية سورية كاملة الصلاحيات التنفيذية» والذي أعقبه يومها على الفور تصريح أميركي بوجوب رحيل بشار الأسد وتصريح روسي أعلن رفضه لهذا التصريح معلناً منذ ذلك الوقت أن مصير الأسد يقرره الشعب السوري. فبدأت منذ ذلك الحين عقدة مصير الأسد تتخذ شكل كرة الثلج لتصبح على ما هي عليه الآن عقدة العقد. في جنيف2 عام 2014 كانت هناك منازلة لا هوادة فيها بين معارضة سورية تعرض الوضع أو المشهد السوري على حقيقته من مآس وويلات وكوارث متعددة الجوانب وتتمسك ببيان جنيف1 كأساس للحل وفي المقابل وقد النظام الأسدي الذي انصب جهده بمساعدة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف ليصرف أنظار جنيف2 عن مشكلة الأسد ونظامه ووجوب إيجاد حل له كي يتمحور النقاش الدائر يومها حول الإرهاب. ولم يكن تنظيم داعش بعد آنذاك سوى فصيل إسلامي إرهابي صغير. يومها فشل جنيف2 والحرب السورية على أشدها.
نقول أنه يومها بالذات كان السباق منطلقاً على أشده بين معارضة مسلحة يرأسها الجيش السوري الحر وفصائل وطنية إسلاموية ليست بعيدة عنه من حيث الرؤيا والبرنامج والهدف الرئيس ألا وهو إلحاق الهزيمة بالأسد ونظامه الدموي الجاثم على صدور السوريين.
إلا أن قوى عالمية وإقليمية كانت قد بدأت في ساحات القتال تنفذ مشروعها بتحويل سوريا إلى ساحة قتال مذهبي. فقد سارعت إيران ومعها ميليشيات حزب الله بذرائعه المعروفة لتبرير تورطه في الحرب السورية وسائر الميليشيات الشيعية (لواء أبو الفضل العباس، فيلق القدس إلى ما هنالك من المتطوعين الشيعة القادمون من أفغانستان وباكستان وغيرها) للتدخل العسكري إنقاذاً لنظام الأسد وحكم الأقلية العلوية الممسكة بمفاصل سوريا كلها. ولم تكن المعارضة السورية المسلحة لا من حيث مستوى التسليح ولا من حيث وحدة القيادة والتي كانت بأمس الحاجة للدعم النوعي بالسلاح والعتاد قادرة على سحق النظام الأسدي، بل أسوأ من ذلك عندما راحت تبرز في صفوف المعارضة السورية فصائل مسلحة ومجموعات غير واضحة الأهداف. هذا في الوقت الذي كان النظام الأسدي ونظيره نظام نوري المالكي يعملان تحت العباءة الايرانية والدعم الروسي المطلق لاستيلاد وتطوير ودعم تنظيم «داعش» الذي لم يكتف بالتوسع في العراق لتسقط بيده الموصل والانبار ويهدد تكريت وداهوك بل ليصبح على مشارف نينوى واربيل.
أحداث كثيرة بليغة جرت آنذاك برهنت وبالملموس من جهة عن وجود خطة متكاملة ترعاها موسكو وطهران لتحويل سوريا الى ورطة عسكرية وساحة فعلية للارهاب. فاستخدام الاسد للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية تم في خان العسل. وغيرها ما كان ليجري اللجوء اليه لولا التوافق الايراني ـ الروسي. وكان التخاذل الاميركي بالغاً ذروته ليس لجهة احجام واشنطن عن دعم المعارضة بالسلاح النوعي ولا بسلسلة المواقف المترددة المزكمة للانوف التي كانت سياسة اوباما الخارجية تتخبط فيها حيال المشهد السوري المزداد تدهوراً بل لجهة مسارعتها للموافقة على الخطة الروسية لانقاذ الاسد من خلال انضمامه المزعوم الى معاهدة عدم استعمال السلاح الكيماوي وقبوله بتسليم مخزونه من هذا السلاح الفتاك.
تعرضت مدن سورية كثيرة لقصف جوي فاق في ضراوته غارات الجيش الاميركي على فيتنام فلم تعد الصواريخ وحدها تنزل في حمص وحلب وحماه وادلب ودرعا، يواكبها سلاح المدفعية الميدانية المدمر، اشد الخسائر، بل برزت البراميل المتفجرة. وجرى محاصرة البلدات المحررة كالزبداني والقصير، بينما المعارضة كانت تتشرذم ليصل عددها الى مئات الفصائل والمجموعات طبقاً للاحصاء الأردني الشهير.
هذا وداعش تعيش فساداً فتستولي في سوريا نفسها على الرقة والحسكة وتواجه الفصائل الكردية محاولة النفاذ الى الداخل التركي (كوباني) ثم لتستولي على دير الزور وتدمر.
انبرى التحالف الأممي الغربي بطيرانه الحربي التصدي لمواقع داعش هذا التنظيم الاسطوري القادر على الاستيلاء على ما استطاع من منابع النفط يتاجر بها في السوق السوداء.
لم تتمكن قوات الحرس الثوري الايراني ولا ميليشيا حزب الله وأمثاله من سحق المعارضة فجرى استدعاء القوات الروسية مباشرة للتدخل العسكري. والروس لهم حساباتهم الخاصة للسيطرة على «سوريا المفيدة» (اي من اللاذقية الى درعا مروراً بحمص ودمشق)، فقاعدة اللاذقية تهمهم كثيراً وكذلك طرطوس وبانياس وبالامكان تطوير المطارات الصغيرة في العمق السوري لتوجيه ضربات نوعية للمعارضة السورية. فللروس ثارات كثيرة هم في صدد تسديدها باتجاه الغرب بعد استعادتهم بالقوة شبه جزيرة القرم واشعالهم الحرب في دانيسك.
هذه هي باختصار المعطيات أو مواصفات المشهد السوري كما بدا عشية جنيف 3. ولا يغرب عن بالنا عرض كل المحاولات الحثيثة والمتواصلة التي بادرت سواء الجامعة العربية ومراقبوها والاسرة الدولية ومراقبوها ايضا ومحاولات كوفي انان والاخضر الابراهيمي الذين جميعاً جرى تفشيلهم على يد الاسد وحلفائه الايرانيين والروس.
فالروس كانوا يحضرون بدورهم لمعارضة روسية الصنع استضافوها مراراً في اروقة الكرملين تماماً كما هي الحالة بالنسبة لمعارضة الداخل ذات الصناعة الاسدية.
ستيفان دي ميستورا ضد المبعوث الدولي، المتلاعب بامتياز الذي ادرك اهمية الموقف الايراني خاصة بعد عقدها اتفاقها النووي العتيد، ولا تفوته قط اهمية تركيا واجهة حلف الناتو بمواجهة الساحة السورية وهو الذي ليس بمقدوره قط التقليل من أهمية الرياض كعاصمة قوية ذات مواقف شجاعة بمواجهة المد الايراني نحو المتوسط والبحر الأحمر.
وهو بالطبع ينطلق من أهمية التوافق الاميركي ـ الروسي بوجوب عقد جنيف 3 بالصورة التي نشهدها الآن. فعوضاً ان يجري وفد النظام بقيادة وليد المعلم بمواجهة وفد المعارضة بقيادة رياض حجاب الرئيس الاسبق للحكومة فقد عثر على افضل الحلول السيئة الا وهو دعوة اربعة وفود لحضور المؤتمر العتيد: 1) الهيئة العليا للمفاوضات 2) وفد النظام الاسدي 3) وفد المعارضة الرسمية 4) وفد منظمات المجتمع المدني 5) وفد الشخصيات المستقلة السورية التي «طعمها» الروس بل اختارته موسكو من الاصدقاء.
ويظلل جنيف 3 كذلك وفود ومراقبون علاوة على الدول الكبرى (5+1) مراقبون من الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي. هذا بالاضافة لقطر وتركيا ومصر ولبنان وبالأخص السعودية التي بذلت جهوداً جبارة حتى يرى انعقاد جنيف 3 النور.
وبحركة بارعة استطاع دي ميستورا وضع لافتة غير مرئية لكنها ماثلة في أذهان الوفود: لا شروط مسبقة بل لا جدول زمني لرحيل الاسد.
تحت الضغوط الأميركية والأوروبية تضطر المعارضة الرسمية للمشاركة في المؤتمر والقبول بالمواصفات الأولى التي حددها دي ميستورا بذكاء.
مدة المؤتمر: 6 اشهر
شكل المؤتمر: طاولات متباعدة يرأسها دي ميستورا هذا، يلقي فيها كلمة الافتتاح امين عام الامم المتحدة بان كي مون، ثم كلمات وفود الهيئة العليا للتفاوض.
حقاً ان ما ردده البعض حيال التعقيدات التي لا تحصى والمتوجب تخليها في حال انعقاد مؤتمر مخصص للأزمة السورية، ان الفترة الزمنية المتوقعة للوصول الى نتائج اولية تتجاوز الستة أشهر، فهم يقترحون بتهكم مرير: المؤتمر الدائم للأزمة السورية.