كلما مرّ نهار جديد تساءل السوري، المنهك، المتعب، بشروط حياة يومية حوّلها النظام وأمراء الحرب إلى جحيم فعلي، عن المستقبل الذي ينتظره، وهو يعرف أن المستقبل العام الذي ينتظر البلاد هو ما سيحدد مستقبله الفردي والأسري.
هي لحظة سوداء يعيشها هذا الإنسان الغارق في هموم الخدمات، وربما يقولها قهراً في سرّه «كنا عايشين»، وبعد دقيقة يدرك أن حركة الزمن الموضوعية لا تسير إلى الوراء، مع أن الزمن السياسي يسير إلى الوراء سورياً، ويعرف أنه تُرك وحيداً فأصدقاء الشعب السوري لم يحموه من النظام الذي تحوّل إلى ميليشيات ومجموعة من أمراء الحرب، فيما هو الضحية المقتول في قذيفة تنزل على شارع، أو في معركة لم يخترها.
هو نفسه محاصر في دوما، أو في أي منطقة يزعم النظام أنها آمنة، مقتول في داريا، أو في حلب، أو في الرقة. هذا المواطن الحيّ، المقتول، الشهيد الذي هرّب بعض أبنائه إلى أوروبا، ويعيش ظروفاً بالغة الشظف ويتعلّق بما يرد في الأخبار، هو الآن يركض خلف رغيف الخبز اليومي ويشتم كل الأيديولوجيات والأحزاب اليسارية واليمينية السورية، ويعيد جملته: وأنا من يحميني من كل هذا الجحيم؟
هذا السوري اللاجئ في الزعتري أو في تركيا أو لبنان، يتفقد كل الجهات الجغرافية باحثاً عن مخرج، منقذ، يرى بعينيه عنصرية بعض اللبنانيين ويصمت مبتلعاً لسانه.
يعارك الفصول الأربعة والظروف الحياتية القاسية، وحين يقترب الشتاء يعرف أنه أمام معركة حاسمة، فإن تحمّل هو البرد فلن يتحمله صغاره.
اختبر كل التصريحات السياسية عبر انتظاره التاريخي الطويل، مرّ على رأسه «جنيف – 1» و «جنيف – 2» ومؤتمر القاهرة ومؤتمرات موسكو، وحفظ كل ما قيل فيها وعنها، وها هو عام الثورة الخامس يقترب وهو وحده لا معيل له سوى سلال الإغاثة.
في لحظة، يتذكر شعاراته التي هتف بها «حرية حرية بدنا بدنا حرية»، «واحد واحد الشعب السوري واحد»، وتدمع روحه على حرية لم يصل إليها بعد، وعلى شعارات عانقت السماء فقابلها النظام بالقتل والتهجير.
هذا السوري في اختبار تاريخي مع كل شيء أجّله، اختبار مع الطائفية، مع السياسة، مع الأخلاق، مع أبدية النظام التي انتهت سياسياً ولم تنته واقعياً، مع الثقافة، مع التاريخ نفسه وسؤاله من يكتب التاريخ؟ تاريخنا الصادق الصادم هذا.
هو المقتول، كان حالماً وصار يائساً من كل شيء، كل الأفكار والحكم وقصائد الشعر لا تنفع أمام جوعه، هو المحاصر المقموع الملاحق. ماذا سيفعل لينجو؟
نعم، سؤال النجاة الفردية هو الآن المسيطر على حياته. فسراً يبحث الجميع عن طرق نجاة فردية، ووحدها طرق الهجرة توحدهم في المصير، وقد انقسم الناس على كل شيء، انقسموا سياسياً مع أن الحاكم الفعلي الآن على الأرض هو الحواجز والخوف الذي تعممه، وانقسموا أخلاقياً وهم يناقشون أحوالهم الحاضرة حيث التبرير المريع عند موالاة النظام وهم يرون كل شيء بمنظار «كنا عايشين».
من هنا، يصير المشهد أشدّ سواداً، نظام يقتل لينجو، وبشر ضحايا يهربون ويقاتلون ويبحثون عن مخرج، كأن الموت يلاحق الجميع.
وفي اللحظة التي يتذكر فيها هذا المواطن أن الحياة تستحق العيش، يتذكر حقّه في الحبّ والعيش الكريم والأمان والكرامة، وأنه خرج بثورة من أجل كل ذلك. ويسأل نفسه: ماذا بقي من الثورة؟ وهل سيسقط هذا النظام؟ ويبقى السؤال الأكبر كيف أنجو كفرد من الجحيم؟