منذ بداية «الثورة السورية» هرب السوريون تباعاً من أشكال القتل والدمار المختلفة والمتنوعة. نزحوا خوفاً من الموت ذبحاً أو جرّاء البراميل المتفجرة، فوصلوا إلى لبنان وسكنوا «مخيمات الجحيم» حيث الموت أشرف من الحياة فيها.
أدّت الأزمة السورية إلى نزوح الملايين من السوريين وتهجيرهم ولجوئهم الى عدد من البلدان العربية والأوروبية… وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام على سكن عدد كبير منهم في مخيمات في الدول المجاورة، ها هم ينزحون مجدداً ويجتازون البحار ليَصلوا إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل وعن أمل بمستقبل «كريم» لأطفالهم فيموتون غرقاً ويذلّون على أبواب القارة العجوز.
نسبة اللاجئين السوريين من إجمالي سكان لبنان عام 2014 هي 26% حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولقد توزّعوا على معظم المناطق اللبنانية. البعض استطاع استئجار منزل يأوي عائلته، لكنّ العدد الأكبر منهم لا يملك ثمن «رغيف الخبز»، ما أدى إلى انتشار مخيمات اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية الحدودية، وكان للبقاع الحصة الأكبر منها.
جولة ميدانية
خلال جولة ميدانية تلمّسنا الوضع الحقيقي لحياة اللاجئين في المخيمات البقاعية، وعلى رغم تقديمات ومساعدات المنظمات والجمعيات المحلية والدولية الغذائية والصحية وغيرها، وعلى رغم استقبال «البقاعيين» للاجئين ومساعدتهم منذ موجات النزوح الأولى قبل أن تبدأ منظمة الأمم المتحدة بمساعدتهم، إلّا أنّ وضعهم الحياتي مُذر و«الخيمة» لا تقيهم برد الشتاء أو حَر الصيف.
في منطقة تل أبيض في «مدينة الشمس» بعلبك، مخيم يحوي 48 خيمة وحوالى 250 شخصاً معظمهم أتوا من حمص وحماه. الأرض والكهرباء بـ«بَلاش»، حسب «الشاويش» (المسؤول عن المخيم والذي يتواصل مع مندوبي المنظمات والجمعيات ويرافقهم خلال جولاتهم في المخيم).
المهن التي يمارسها الرجال من اللاجئين في هذا المخيم هي «البويا»، أي مسح الأحذية، فيتمركزون حيث يكثر المارّة في بعلبك وزحلة لعلّهم يَجنون بضعة آلاف من الليرة اللبنانية لإطعام أولادهم، والمهنة البارزة والموحدة في هذا المخيم هي «طب الأسنان» يتناقلونها وراثياً وليس عبر تعلّمها وحيازة شهادة جامعية فيها. يؤكد «الشاويش» ويجزم أنهم يصنعون «أسناناً» ويصلحونها أفضل من أيّ طبيب، حتى أن عدداً من أطباء البقاع يقصدونهم ويتعاملون معهم.
خيمة «صيفية»
يتواجد المخيم على أرض كبيرة قاحلة حيث درجة الحرارة مرتفعة جداً والشمس قوية حارقة ولا تخفّف الخيَم و»الشوادر» من وطأتها، ما دفع بالشاويش إلى صنع خيمة «صيفية» عازلة بنسبة مقبولة لحرارة الشمس حيث يجتمع الرجال. حتى الكلب لم يستطع تحمّل حرارة الشمس، فبحث عن أيّ «فسحة فَيّ» ليستلقي ويرتاح، إلّا أنّ الأولاد والأطفال يركضون حفاة القدمين وشِبه عراة، ولكنهم غير مُكترثين، لعبتهم الوحيدة هي رَمي الحجارة في بؤرة تصبّ فيها المياه الناتجة عن «الجلي»، ما يضاعف خطر تعرضهم للأمراض والجراثيم.
لا يحصل الأطفال على حياة غذائية وصحية سليمة فنظافتهم شبه معدومة، لا قدرة لشراء اللحوم والدجاج إلّا نادراً، لا إمكانية لتبديل الثياب وغسلها يومياً، كما أنّ المراحيض متواجدة خارج الخيَم فيضطر الأولاد للخروج كي يقصدوها حتى خلال البرد والثلج.
عدد قليل من الأولاد يحصل على التعليم، كما أنّ عدداً من الأشخاص أو حتى عائلة بأكملها يحرمون من الحصص الغذائية المقدمة من منظمة الأمم المتحدة وذلك لاعتبارات عدة، ومنها عدد أفراد العائلة بالإضافة إلى عمر الوالد وأعمار الشبّان، فإن اعتبر أنّ بمقدورهم العمل يحرمون من المبلغ المحدد للفرد اللاجئ مقابل حصة غذائية.
ولقد انخفضت قيمة المساعدة المالية بسبب عدم توافر التمويل اللازم، فبعد أن كانت 30$ للفرد أصبحت اليوم 13$. يتذمّر اللاجئون ويعتبرون أنّ هذه الاعتبارات مُجحفة بحقهم إذ انهم لا يستطيعون إيجاد أي عمل في لبنان، خصوصاً في المناطق التي يتواجدون فيها، حيث لا فرص عمل أصلاً.
30 حالة ولادة
وعلى رغم الأوضاع الصعبة وسَكن أكثر من عائلة داخل خيمة واحدة، إلّا أنّ عدداً كبيراً من أطفال اللاجئين السوريين يولد في لبنان. وفي هذا المخيم ما لا يقلّ عن 30 حالة ولادة، فهم يعتبرون أنها إرادة «الله». لكن تكاد لا تخلو أي ّخيمة من صحن لاقِط، فهو وسيلة الترفيه الأقل كلفة.
العدد الكبير من اللاجئين السوريين وعدم تنظيم أماكن تواجدهم وحصر المخيمات من قبل الحكومة اللبنانية أثّر سلباً على أزمات لبنان المتعددة، ومنها النفايات.
ففي حين تعلو أصوات البيئيين والاختصاصيين مُحذرين من مدى التأثير السلبي والضرر الناتج عن الحرق العشوائي للنفايات، تبيّن لنا أنّ ساكني هذا المخيم في منطقة تل أبيض يحرقون نفاياتهم منذ أكثر من ثلاث سنوات، أي منذ تواجدهم في هذا المخيم. وإلى جانبه تتوسّع رقعة النفايات المتنوعة غير المُفرزة التي تُرمى عشوائياً وتُحرق.
إتصلنا برئيس بلدية بعلبك مرات عدة لاستيضاحه عن هذا الأمر، وإذا كان لدى البلدية عِلم بهذا الموضوع؟ إلّا أنه يجيب: أنا في اجتماعات دائمة. ثم يَعِد بمعاودة الاتصال، لكنه لا يفعل. أحد «البعلبكيين» أكد أنّ عدداً آخر من المخيمات يقوم بحرق «النفايات»، كما أن عدداً من أهل المدينة يقوم بذلك أيضاً. فأين المعنيون والمسؤولون من هذا الموضوع ومِن ضَرره الكارثي على لبنان بأكمله وعلى اللبنانيين في منطقة زراعية يغمرها الثلج شتاءً؟!
الرفاعي
عدد من الجمعيات المحلية يساعد اللاجئين، ومنهم مجموعة سوا، من خلال نشاطات وبرامج تعليمية وترفيهية للأطفال، وتقديم وسائل تدفئة (الصوبيا) وتوزيع خزانات وتمديد حمامات للمخيمات وتجهيزها.
وقال المنسق العام لـ مجموعة سوا في البقاع ذكي الرفاعي: «تكاد لا تخلو أي منطقة في البقاع من مخيمات للاجئين السوريين، ولا إمكانية لعودة أيّ منهم إلى سوريا في المدى القريب نظراً للقتال المستمر».
واعتبر الرفاعي، في حديث لـ»الجمهورية»، أنّ «المعاناة لا تقتصر على اللاجئين السوريين في المخيمات بل هناك عائلات سورية كثيرة لم تستطع تقبّل السكن في مخيم، خصوصاً مَن كانت حياته لائقة وكريمة في سوريا، فلا بديل عن الخيمة الّا استئجار منزل»، مشيراً إلى أنّ «مدة البقاء الطويلة في لبنان من دون عمل ومن دون أي مساعدة، وعدم وجود مال في حوزة العائلات جعل عائلتين أو ثلاثة وحتى أكثر يتشارَكون المنزل نفسه مهما كان صغيراً».
ولفتَ إلى «الوضع الصعب للعائلات اللبنانية التي كانت تسكن في سوريا وتعمل هناك واضطرت للنزوح إلى لبنان مع اشتداد القتال، وهي لا تملك أي شيء في لبنان ولا تشملها أي مساعدة من قبل المنظمات».
وبالنسبة للأطفال السوريين اللاجئين، رأى الرفاعي أنّ «معاناتهم مزدوجة، فمَن استطاع الذهاب إلى المدرسة أو تَلقّي التعليم يتعرّض للمعاملة العنصرية من الأساتذة وقلة الاهتمام، بالإضافة إلى الأجواء غير الملائمة حيث أنّ الدوام بعد الظهر، وفي هذا الوقت يَشتد البرد والصقيع شتاءً في البقاع، والمدارس غير مجهزة بأيّ وسائل للتدفئة، كما أنّ الكهرباء تنقطع معظم الوقت فيتوقف التعليم ويصبح الصف كحبس للأطفال في العتمة الى حين انتهاء الدوام»، مضيفاً: «إنّ عدداً كبيراً من الأهالي يرسلون أبناءهم للعمل في الحقول الزراعية، مثل (لَمّ البطاطا)، مقابل 2000 ل.ل.
يأخذها الأهل أو يتمّ خَصمها من بدل إيجار الأرض. وعلى رغم أنّ وزارة التربية أقامت مشروع الدعم المدرسي الصيفي وتمّ تكليف كاريتاس بنقل الأولاد اللاجئين إلى المقرّات، إلّا أنّ (شاويش المخيم) كان يهدد سائقي باصات النقل ويحذرهم من المجيء لأخذهم، فيجب أن يعملوا لا أن يتعلموا».
55 خيمة
في زحلة قرب مقر مفوضية الأمم المتحدة للاجئين مخيم يضمّ حوالى 55 خيمة، وهو موجود منذ 5 سنوات، يعاني فيه اللاجئون المشاكل الغذائية الصحية والتعليمية نفسها التي يعانيها جميع اللاجئين في المخيمات في لبنان. هنا يدفعون لصاحب الأرض بدلاً مالياً قدره
1200000 ل. ل. في السنة عن كل خيمة، كما يدفعون بدل الاشتراك في كهرباء الدولة بالإضافة إلى مبلغ 50000 ل.ل. شهرياً عن كل المخيم للبلدية لـ لَمّ النفايات.
الحمامات خارج الخيَم، ولكل 14 شخصاً حمام واحد. أكثر من 50 طفلاً ولدوا في هذا المخيم، ويعاني الأولاد أمراضاً جرّاء درجات الحرارة المرتفعة، مثل انتشار الحساسية بينهم، أمّا الدواء فهو ما يكون متوافراً مع جمعية (بيوند) التي توزّع الأدوية مرة كل شهر. ولقد أدّت الحرارة المرتفعة إلى اندلاع حرائق في عدد من المخيمات، وما أنقذها من الاحتراق الكلي سوى «الاطفائيات» المقدمة من
الجمعيات.
إبنة الشاويش
أما أكثر ما يشعرهم بالإهانة فهو تحوّل المخيم إلى حبس عند الساعة الثامنة مساءً، فيمنعون من الخروج وذلك بطلب من صاحب معمل مجاور، بحسب ابنة «الشاويش». إبنة الشاويش تجمع الأطفال لتعلّمهم وتلعب معهم، لأنّ أحداً منهم لم يعد يذهب إلى المدرسة لأنّ أجرة النقل أصبحت على عاتق الأهل، كما أنّ المسافة بعيدة والثلج يغمر المكان شتاءً.
وتروي ابنة «الشاويش» أنّ الأولاد يضطرون الى اجتياز الأوتوستراد لركوب الباص، ما أدّى إلى دَهس أحدهم مرة. المستشفيات الحكومية المتعاقدة مع الأمم المتحدة وضعها كارثي، هذا ما يقوله بعض اللاجئين، متحدّثين عن التعامل معهم بازدراء ولامبالاة و«استِلشاء»، كأنهم ليسوا من البشر ولا يشعرون.
وعلى رغم حاجات عائلاتهم المُلحّة الّا أنّ الرجال اللاجئين في هذا المخيم لا يعملون، لأنّ العمل المتوافر هو في الزراعة حيث تعمل نسائهنّ. فهم يعتبرون أنّ «عَيب يشتِغِل الرجّال مِتل النسوان»! فينام الرجال ويرسلون زوجاتهم للعمل مقابل 6000 ل.ل. يومياً، كما يرسلون الأولاد للعمل في ميكانيك السيارات أو في المحال.
من حق اللبناني أن يخاف على وطنه وعلى عمله ومن تداعيات اللجوء السوري الكبير، ولكن من حق اللاجئ أيضاً العيش بكرامة وبحدّ أدنى من متطلبات الحياة الأساسية، فهو إنسان هُجِّر قسراً من وطنه وقريته ومنزله.
هُجِّر من نفسه ومن أحلامه ومستقبله. سؤال ساذج وجوابه معروف وواضح، لكن يجب طرحه، لماذا لا تقدّم الدولة مساحة محددة ومحصورة في منطقة معينة بتمويل وإدارة المنظمات الدولية لإنشاء مخيمات لائقة تحفظ كرامة اللاجئ ولا ترتّب أيّ عبء على الدولة اللبنانية أو على اللبنانيين؟!
أحمد ولد سوري لاجئ عمره 11 سنة يعمل في شركة لتوزيع المياه مقابل 5000 ل.ل. يومياً ويعطي ما يجنيه لوالده بغية شراء الطعام للعائلة. أحمد وأخوته وجميع أولاد المخيم بحاجة الى الطعام والثياب والدواء والتعليم والاستشفاء… ويجب أن يتركوا العمل ويعودوا إلى مقاعد الدراسة. إلّا أنّ كل ما يتمنّاه أحمد هو درّاجة هوائية.
الولد مهما قَست الحياة عليه ومهما أجبرته أن يحمل مسؤوليات ومتاعب وهموماً وذلاً وإهانة، يبقى ولداً ولا تستطيع لعبة الحياة القاسية سرقة رغبته في اللعب والحلم.