IMLebanon

أزمة اللجوء السوري الطويل الأمد بين الدمج والتوطين في لبنان  

 

الانقسامات السياسية تسهّل عمليات الدمج الدائم

 

بعد مضي 12 سنة على بداية الأزمة السورية، واستضافة النازحين على الأراضي اللبنانية فقد بات لبنان على شفير الانهيار، بعد أن تحوّل الى رهينة بالكامل بأيدي شبكة واسعة من المنظمات الدولية التي باتت تتحكم بتنظيم وإدارة أزمة لبنان، والتي باتت تصنّف كأكبر أزمة لاجئين في العالم.

لقد تحوّلت الأراضي اللبنانية الى مربعات مكشوفة بالكامل لتنفيذ كافة عمليات التوزيع والدمج والاختلاط التي تنفذها المنظّمات الدولية، والخرائط العديدة المنشورة حول هذه التوزيعات والعمليات الميدانية تشهد على ذلك، من توزيع المدارس التي تستقبل النازحين في مختلف مراحل التعليم، الى توزيع المستشفيات والمراكز الصحية، ودور الرعاية والحضانة التي تتكفّل برعاية أطفال اللاجئين، الى المراكز المخصصة لتقديم الاستشارة والدعم لتسجيل الولادات والحصول على الاقامة، وتأمين فرص العمل.. الى غير ذلك من أشكال الدمج القائمة في مختلف المناطق اللبنانية، ودون أية مشاركة أو تنسيق مع المؤسسات الحكومية، بحيث تبدو الدولة غائبة عن المتابعة والتنسيق، ما عدا بعض المشاركين من قبل منظمات المجتمع المدني ووزارة الشؤون الاجتماعية، ويكفيهم الحصول على الدعم المالي لمتابعة بعض المشاريع الإنسانية في برنامج دعم الأسر الفقيرة.

لقد وضعت الدول المجاورة لسوريا، وفي مقدمتها الأردن وتركيا والعراق محددات وأسس لتنظيم اقامة اللاجئين تحت اشراف الدولة، ووفق القوانين التي تحمي سيادتها، أما لبنان فقد اعتمد سياسة «النأي بالنفس» نتيجة الانقسامات السياسية حول التعامل مع الأزمة السورية، فهو لم ينفذ ما طلبه مجلس الأمن عام 2013، ذلك أنه وبعد تزايد عدد اللاجئين والنقص في التمويل، فقد دعا مجلس الأمن لبنان الى «إنشاء مؤسسات فاعلة لإدارة ملف النزوح السوري، ومواجهة تداعيات الأزمة وتجاوز الانقسامات الداخلية، وذلك للتوجه الى الدول المانحة وطلب التمويل».

لقد أدّت الصراعات السياسية والخلافات في التعامل مع ملف النازحين، الى تعطيل الموقف الرسمي، بحيث أن كل شيء تملكه الدولة قد بات تحت سلطة المجتمع الدولي، وبقيادة المفوضية العليا للاجئين، مع شركائها الدوليين من اليونيسيف الى برنامج الغذاء العالمي، وأوكسفام.. وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية، التي تقاسمت كامل التمويل الدولي المخصص لملف اللاجئين، ودون اية مشاركة من الحكومة اللبنانية، التي لا زالت تسعى وتطالب المفوضية بتسليم اللوائح والبيانات المسجلة لديها حول أعداد النازحين وتوزيعاتهم على الأراضي اللبنانية.

 

الدول الأوروبية ترفض مبدأ تقاسم المسؤولية

 

النتيجة الحاسمة اليوم، كيف يمكن للعالم الغربي التضحية بلبنان من خلال محاصرته بعدد من اللاجئين يفوق عدد سكانه، واستباحة كامل أراضيه وكافة موارده الطبيعية والاقتصادية والبشرية، ثم تحويله الى بلد لاجئين، ان «لبنان قد دفع ثمناً باهظاً نتيجة لكرمه».

لقد اتقنت المنظمات الدولية قيادة اللعبة جيداً لحماية حدود أوروبا: المفوضية… اليونسيف.. أوكسفام.. في الحقيقة أن لبنان هو من يساعد أوروبا ويتحمّل وحده أعباء اللاجئين، حيث تم استغلال الفرصة  المتمثلة بانهيار السلطة الحاكمة وضعف القدرة على المواجهة والانقسامات السياسية، وجرى استباحة السيادة في دولة صغيرة باعتماد الأسلوب المبني على النظام الاستعماري والنهب المباح.. وهذا  ما يتبيّن عندما صوّت البرلمان الأوروبي، يوم الأربعاء بتاريخ 12 تموز/يوليو عام 2023، على قرار يدعم إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، لا سيّما أنه يحثّ لبنان، على الامتناع عن الترحيل وفرض إجراءات تمييزية والتحريض على الكراهية ضد اللاجئين السوريين».

هذا الموقف المتسرّع يثير التعجب ويدعو للاستغراب في حالة لبنان.. إذا كيف يمكن لدولة صغيرة ان تتحمّل وحدها ما تعجز عنه ٢٧ دولة في الاتحاد الأوروبي… ولماذا تفرض قوانين اللاجئين على دولة لم توقّع اتفاقية اللاجئين بينما تتنصّل منها الدول الأوروبية..

ولماذا ترفض الدول الاوروبية مبدأ تقاسم المسؤولية في تحمل أعباء اللجوء وتطبيق اتفاقية اللاجئين؟..

أسئلة لا تجد صداها اليوم، مع انهيار الدولة اللبنانية التي تعاني من الفراغ الرئاسي، والمحكومة من قبل سلطة فاشلة في الحفاظ على سيادة لبنان.

 

لبنان نحو الهاوية

 

في مواجهة أكبر أزمة لاجئين عرفتها دولة صغيرة في العالم، يندفع لبنان الآن بأقصى سرعة نحو الانفجار الداخلي والسقوط الى الهاوية، حيث تنتشر الفوضى مع تزايد الحوادث الأمنية المتكررة في جميع أنحاء البلاد، وكذلك تفكك الطبقة الوسطى إلى مستويات الفقر المتعدد الابعاد حيث بات أكثر من 80 في المائة من السكان اللبنانيين دون مستوى خط الفقر.

وتعتبر أزمة النزوح السوري بمثابة أكبر أزمة في التاريخ الحديث، وأكبر أزمة واجهتها المفوضية العليا للاجئين منذ قيامها عام 1950، وأكبر أزمة يواجهها صندوق الأغذية العالمي منذ تأسيسه عام 1962.. وهي أزمة تصنّف بحسب البنك الدولي 2021 «من أشدّ عشر أزمات، وربما أشدّ ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينات القرن التاسع عشر»، كما انها من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية.

لقد سقطت البلاد في الهاوية عندما تم تحويل لبنان إلى خزان بشري ضخم يضم عدة مخيّمات وعشوائيات، تأوي مئات الالاف من اللاجئين والنازحين والمكتومين، والمهاجرين غير الشرعيين، مع عشرات الالاف من عديمي الجنسية في لبنان من مختلف الجنسيات،  لقد أصبح الوضع كارثي بعد مضي أكثر من 12 سنة علي بداية النزوح السوري.. حيث يضم لبنان الآن أعلى نسبة احتضان للاجئين في العالم، سواء بالنسبة للفرد أو لمساحة الأرض. فقد بدأت التوترات تبرز في بلدان أوروبا عندما استقبلت ما يعادل 2٪ إلى 3٪ من سكانها كلاجئين، حيث تتنقل الاحداث الأمنية من بلد لآخر مما دفع أوروبا لتشديد الاجراءات الأمنية على الحدود لمنع اللاجئين من الدخول الى بلدان الاتحاد الأوروبي.

بينما بالمقابل فان أكثر من نصف سكان لبنان باتوا من اللاجئين والنازحين، حيث يسود التعطيل والفراغ الطويل، كما يبرز الشلل في المؤسسات الرئيسية الثلاث: حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات كبرى ، وبرلمان عاجز عن انتخاب رئيس للبلاد، حيث يسود فراغ كامل بانتظار المساعي الدولية.

كل هذا أدّى الى إضعاف الدولة وتفكك البنية السكانية، وانتشار الفساد والفوضى وبروز تصدّعات وانكسارات في هيكلية المؤسسات العامة التي فقدت دورها في الرقابة والمحاسبة ومحاربة الفساد.

لقد وصل لبنان اليوم الى حافة الانهيار، فهو في مواجهة أزمة مالية غير مسبوقة، كما أنه لا يملك ما يكقي من العملة الصعبة لاستيراد القمح والدواء والمحروقات..

 

الصراع على البقاء والعيش والتوترات الأمنية

 

لقد أدّى تراكم الأزمات إلى دفع أعداد متزايدة من اللبنانيين إلى الفقر المدقع، حيث بدأت مرحلة الصراع على البقاء وسبل العيش لمواجهة الغلاء الفاحش ونقص الموارد والتنافس للوصول الى لقمة العيش، كما أدّى فقدان الوظائف والانهيار المالي ثم تراجع القوة الشرائية إلى قيام احتجاجات واسعة، وبروز شكاوى وصدامات بين اللبنانيين في المجتمعات المضيفة، واللاجئين الذين تتكفل بهم المنظمات الدولية وتؤمن لهم كافة متطلبات الغذاء والصحة والمأوى ورعاية الاطفال، والرعاية الطبية والمياه النظيفة ودعم التعليم والمشورة بشأن الصدمات والملابس ونوعية الحياة..

ومع تفاقم الأزمة المعيشية، فقد بدأت تتحوّل الأحداث إلى أعمال عنف ومواجهات، واشتباكات أمنية متنقلة وسط تفلت أمني اجتماعي وتوترات في مناطق متعددة، وبخاصة في مخيمات اللاجئين، وهي قد تكون بمثابة صورة مسبّقة للانقسامات السياسية العميقة بين الأحزاب المتنافسة، لضرب استقرار لبنان، مما قد يؤدي الى تفكك بنية الدولة ومؤسساتها.

وهذا ما برز مؤخراً، مع تدهور الأوضاع الأمنية التي انفجرت في مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين يوم السبت في 29 تموز 2023، وهو يمثل أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان (أكثر من 70 ألف لاجئ)، فقد انتشرت مخاوف من «محاولات استخدام الساحة اللبنانية لتصفية الحسابات الخارجية»، وتمدد الأحداث الأمنية مع تصاعد التوتر الى بقية مخيّمات اللاجئين والنازحين، وهذا ما دفع بعض السفارات العربية (السعودية والكويت والبحرين وسلطنة عمان وقطر والامارات..)، والأجنبية (ألمانيا وبلجيكا…)، الى تحذير مواطنيها من مخاطر توسع الاحداث الامنية في لبنان.

 

دفع لبنان ثمناً باهظاً نتيجة لكرمه

 

في عام 2013، وقبل عشر سنوات، قالت آن ريتشارد، مساعدة وزير الخارجية الأميركية، لشؤون السكان واللاجئين والهجرة في وزارة الخارجية، «ليس هناك الآن أي قرية أو مدينة واحدة في لبنان لم تتأثر بوجود اللاجئين السوريين». ويعادل تدفق اللاجئين إلى لبنان الصغير تدفق 75 مليون إنسان – أو ضعفي عدد سكان كندا – إلى الولايات المتحدة. وأضافت (خلال مناقشات جرت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2013 في مركز ويلسون للأبحاث في واشنطن)، «إن التزام لبنان الثابت بالمبدأ الإنساني الدولي للحماية يخدم كمثال للمنطقة». ولكنها لاحظت أن لبنان «دفع ثمناً باهظاً نتيجة لكرمه».

لقد أفادت دراسة حديثة للبنك الدولي عام 2013، أنه منذ بداية الأزمة السورية، دفع 170 ألف لبناني إضافي إلى براثن الفقر. ومع ذلك، «فتحت الحكومة اللبنانية مستشفياتها وعياداتها للاجئين السوريين وسمحت للأطفال اللاجئين بالتسجيل في مدارسها المكتظة بالفعل» ، على حد قول ريتشارد. لكن التداعيات كانت كبيرة جداً، ذلك ان البنية التحتية للبنان قد انهارت تحت العبء.

كما ان مساعدات الاغاثة الطارئة التي تمكّنت من حماية اللاجئين السوريين، لم تأخذ بالاعتبار احتياجات التنمية الطويلة المدى مما أدّى الى توريط لبنان في دوامة من عدم الاستقرار الناجم عن الانهيار الاقتصادي والصراع الاجتماعي الناتج عن تدفق اللاجئين.

كما انه وبدلا من أن يهتم المجتمع الدولي والأمم المتحدة، ولا سيّما مجموعة الدعم الدولية للبنان، بدعم جهود الحكومة اللبنانية خلال هذه الأزمة، ومساعدتها لتقييم الاحتياجات ووضع «خارطة طريق» للتدخلات لتوجيه استجابة المجتمع الدولي، نجد انه تتم محاصرة لبنان لمنع استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن نتيجة العقوبات المفروضة على سوريا والتي يتم تطبيقها على لبنان الغارق في أكبر أزمة لاجئين من تدبير وصنع المجتمع الدولي، مما ادى الى تراكم الأعباء الاقتصادية والمالية الناجمة عن النزوح السوري، حيث أعلن لبنان، عن قراره بالتخلف عن سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار في 9 آذار/مارس 2020، وذلك في خطوة غير مسبوقة لبلد لم يتخلف عن سداد ديونه من قبل.

تنفيذ عمليات الدمج المحلي للنازحين باعتباره حلّاً دائماً

 

ثلاثة خيارات أمام اللاجئين السوريين

 

توجد ثلاثة خيارات في الاستجابة لأزمة اللاجئين، وهي تتضمن: خيار العودة أولاً، ثم خيار إعادة التوطين في بلد ثالث، وأخيراً خيار الدمج المحلي في البلد المضيف.

وهذا ما يحدث في لبنان حيث يتم تطبيق مختلف أشكال الدمج المحلي وهو المسار الثالث، بعد رفض المجتمع الدولي مقاربة الأزمة في إطار شمولي، أي كجزء من استجابة عالمية أوسع تراعي الحلّين الدائمين الآخرين، وهما خيار العودة الآمنة وإعادة التوطين في بلد ثالث.

فضلاً عن ذلك، تعطيل كافة محاولات عودة النازحين السوريين في لبنان، وكذلك فشل المفوضية في تطبيق مبدأ تقاسم المسؤولية بالنسبة لمشاركة الدول الكبرى في تحمّل قسطاً من الأعباء في استضافة اللاجئين المتواجدين على اراضي الدولة المضيفة في أوضاع اللجوء الممتد.

 

لبنان في مواجهة اللجوء الدائم

 

يُعتبر وضع اللجوء الممتدّ، بحسب تعريف مفوضية شؤون اللاجئين، بمثابة الوضع» الذي يعيش فيه 25 ألف لاجئ أو أكثر من الجنسية نفسها في المنفى لخمس سنوات متتالية أو أكثر في بلد لجوء معيّن» (مفوضية شؤون اللاجئين عام 2018 ).

أما في حالة لبنان، فقد دخل مرحلة اللجوء الطويل الأمد حيث لا زال المجتمع الدولي يُعارض عودة النازحين السوريين ويضع العراقيل أمام محاولات العودة الآمنة التي بدأ لبنان بتنفيذها منذ عام 2017.

ومنذ أكثر من خمس سنوات يحاول لبنان تنظيم قوافل إعادة النازحين وفق خطة العودة الآمنة والطوعية، التي ينظمها الأمن العام، لكن غالبية الذين شملتهم قوافل العودة، فضلوا الرجوع الى لبنان عبر المعابر غير الشرعية.. وذلك طمعاً بالمساعدات التي توفرها لهم المنظمات الدولية التي لا زالت تعارض محاولات إعادة النازحين باعتبار ان الأوضاع الأمنية والاقتصادية في سوريا لا زالت غير مستقرة.

ويتبيّن على ضوء الواقع القائم، أن سنوات الفترة الأخيرة منذ بداية العام 2023، قد شهدت موجات كثيفة من المهاجرين السوريين عبر المعابر البرية وبطرق غير شرعية، وغالبية الوافدين من الشباب الباحثين عن فرص عمل وموارد العيش والمأوى، وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة والحصار المفروض على سوريا، وبعدما وصلتهم من أقاربهم أخبار المساعدات الممكن الحصول عليها في لبنان.. بينما بالمقابل تتواصل هجرة الشباب اللبناني الى الخارج للبحث عن الجنسية وفرص العمل.

هكذا وبينما تتواصل موجات القادمين عبر المعابر البرية، تبدو الدولة عاجزة كلياً في مواجهة اللجوء السوري الدائم، وبانتظار استعادة دورها وامكاناتها.. واسترجاع سيادتها أمام المجتمع الدولي، وهذا سيحتاج إلى سنوات طويلة.

بينما بالمقابل تتسارع التحوّلات الديموغرافية على الأراضي اللبنانية، بين هجرات وافدة وهجرات مغادرة، والسنوات القليلة القادمة سوف تغيّر وجه لبنان.. والى الأبد.

 

* رئيس مركز السكان والتنمية