ثمّة أمر يُطبخ لسوريا في هذه الفترة، بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، ليس واضحاً إذا كان سيأخذ في الاعتبار مصالح طهران، فيما تبدو دمشق نفسها في وضعية الترَقّب.
بنحوٍ تصاعدي، قرّرت إدارة أردوغان استخدام ورقة النازحين في الاستثمار الأكثر ربحية لها، في هذه المرحلة، بعدما تمَّ استنفاد هذه الورقة في مساومة الأوروبيين من أجل تحقيق مكاسب سياسية ومالية طوال 11 عاماً مضت. فالأوروبيون منشغلون اليوم بمأزق أوكرانيا ونازحيها والأزمات الحادّة في مجال الطاقة على أبواب الشتاء، وهاجسهم حماية الحدود الشرقية للقارة العجوز، وحماية الاقتصادات الأوروبية التي أصيبت بخسائر فادحة في هذه الأزمة.
إذاً، قرَّر أردوغان أن يستثمر ملف اللاجئين السوريين بمقايضة أكثر جدوى. وقد وجد أنّ بوتين هو الأكثر استعداداً اليوم لدفع الأثمان له. وساحات المقايضة بين الرجلين متعددة، ومن أبرزها سوريا.
يدرك بوتين أن حالاً من الفتور، بل التوتر، تسود بين أردوغان والرئيس الاميركي جو بايدن. فمنذ وصول الرئيس الحالي إلى البيت الأبيض، انتهى شهر العسل الأميركي – التركي الذي ساد خلال ولاية دونالد ترامب. ويسعى بوتين إلى تعميق وضعية التوتر بين الشريكين في الحلف الأطلسي، من طريق اجتذاب أردوغان وإغرائه بالمكاسب.
لذلك، كان مثيراً أن يذهب أردوغان إلى قمة طهران الثلاثية مع بوتين والرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي في اللحظة التي كان بايدن يعقد قمته مع الخليجيين العرب في جدّة، ويقنعهم بالانخراط معه في مواجهة روسيا.
يدرك أردوغان أن تركيا تقع اليوم عند نقطة شديدة الأهمية، تتداخل فيها الخطوط، بين آسيا وأوروبا، وعلى مشارف أوكرانيا وروسيا والمتوسط، حيث معابر الغاز ومخزوناته. وهو يريد استثمار هذا الموقع الاستراتيجي.
يحاول أردوغان «التعَملق»، مستوحياً ما استطاع السلاطين العثمانيون تحقيقه على مدى قرون، قبل انهيار السلطنة عشية الحرب العالمية الأولى. فهو يوحي للأميركيين بأنه ما زال عضواً مخلصاً للحلف الأطلسي، لكنه في الموازاة يفتح خطوطاً على المحور المقابل، ويجلس منتظراً عمليات البيع والشراء.
عندما أعطى موافقته على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي، حصل في المقابل على اتفاق أمني لحظر تعاون البلدين مع القوى الكردية المناوئة لتركيا وتسليم بعض المطلوبين. ومن خلال التفاهم مع بوتين، هو حصل على تغطية لسلوكه في شمال سوريا، وعلى وعدٍ بإبعاد الخطر الكردي عن الداخل التركي.
وقدّم بوتين لأردوغان انتصاراً سهلاً وتنازلات على جبهة أرمينيا – أذربيجان قبل عامين. وقد يكون أردوغان في صدد التصعيد في ملف الغاز والنفط في المتوسط لإحراج الأوروبيين في اللحظة الأكثر حساسية، وهذا ما يخدم بوتين أيضاً.
منطق الخدمات المتبادلة ظهرَ في لقاء سوتشي الأخير بين الرجلين، حيث تردَّد أن روسيا مَنحت الأتراك ضوءاً أخضر لعملية في شمال سوريا، كان يجري تأجيلها منذ أكثر من 4 أعوام، لعدم نضوج الظروف. وتقضي الخطة بتأمين منطقة حدودية تحت رعاية تركيا، بعمقٍ يُراوح ما بين 15 كلم و30 كلم، ويمكن أن تشكل «شريطاً حدودياً» يكفل إبعاد التنظيمات المناوئة عن الحدود.
هذه الفكرة يتردَّد أن إيران رفضتها في القمة الثلاثية الأخيرة، فيما بَدا الجانب الروسي مستعداً لمناقشتها مع الأتراك. ولذلك، تقف القيادة السورية في وضعية الترقّب. وإذ جرى التسريب من الجانب التركي، قبل أيام، أنّ الروس ربما يسهّلون حصول اتصال قريباً بين أردوغان والرئيس بشّار الأسد، للتفاهم على المسائل العالقة، فإنّ دمشق لم تُؤكد الشائعة.
وهذا الأمر منطقي، لأن أي تفاهم سوري – تركي يصعب حصوله إلا برضى القيادة الإيرانية، إضافة إلى روسيا.
اليوم، يستطيع أردوغان أن يطمئنّ إلى أن خطته للتوسّع في الشمال السوري أقرب إلى التنفيذ، ما دام يحصل على تغطية بوتين وصمت أوروبا. فما يحتاجه هو الدعم الأميركي فقط. ولا يعني هذا الدعم أن يتخلّى الأميركيون عن الحليف الكردي في سوريا، بل يكفي أن يوافقوا على إقامة تركيا للشريط الحدودي الفاصل. وهو أمر ربما يكون سهلاً لأسباب مختلفة.
إذا نجحت الخطة التركية، فستشهد سوريا تحريكاً في خرائط النفوذ المرسومة على أرضها، في مرحلة حسّاسة، أي في اللحظات التي انتهت فيها الحرب تقريباً وبدأ الكلام بالتسويات، حيث يمكن أن تحصل مقايضات بين القوى الإقليمية والدولية على مستقبل سوريا.
والمفتاح الذي يلوّح الأتراك باستخدامه هو نحو المليونين ونصف مليون لاجئ سوري على أرضهم. ويبدو أن هناك قراراً حازماً في أنقره لترحيلهم في فترة لا تتجاوز العام. وهو ما أكدته وزيرة الشؤون الاجتماعية التركية بإعلانها أن أي لاجئ سوري لن يبقى على الأراضي التركية مع إطلالة العام 2023، فيما تحدّث مسؤولون آخرون عن اكتمال عمليات الترحيل قبل بداية الصيف المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية والنيابية.
ولهذه الغاية، تنفّذ تركيا مشاريع لبناء منازل من الطوب في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا، تحضيراً لاستقدام اللاجئين. وقد أعلنت تجهيز 62 ألف منزل حتى اليوم، والمباشرة بتجهيز 100 ألف قبل نهاية العام 2022. وهناك خطط أخرى لاستكمال البناء، بحيث تُقارب القدرة الاستيعابية نحو مليون نسمة في المرحلة الأولى، ويمكن زيادتها عند توسيع المنطقة الحدودية، وفق الخطة التركية.
إذا حصل الأتراك على تغطية إقليمية ودولية لإمرار مشروعهم، ومن خلاله قدّموا إغراء إلى المجتمع الدولي بزوال «خطر» اللاجئين السوريين، وإذا وافق الأميركيون على صيغة تُحافِظ على حضور للمكوّن الكردي، برعايتهم، فسيعني ذلك أن خرائط النفوذ قد بدأت تتحرّك في سوريا بدءاً من الشمال، وستفتح المجال لملاقاتها بخرائط نفوذ في مناطق أخرى.