Site icon IMLebanon

يوم غادر 12 نازحاً من البوابة الحدودية وعادوا عشرات من الشبابيك المخلّعة

 

وحدها سيارات الـ”توك توك” عند المصنع قوافل قوافل

صدقنا. النازحون السوريون يغادرون… وسيغادرون بعد وبعد… وكرجنا البارحة قبل بزوغ ضوء الشمس نحو الحدود اللبنانية – السورية، نحو منطقة المصنع، لوداع قافلة من النازحين الجدد. انتظرنا وصول القافلة. انتظرناها طويلاً بينما صقيع تشرين يلفحنا يميناً ويساراً. مرّ الوقت بليداً الى أن تذكرنا أن الوعد في بلدنا ليس إلا كذبة تنتظر الحدوث والوعد بالتغيير لا يعني دائماً أن شيئاً ما يتغيّر!

إثنا عشر شخصاً قيل لنا هناك، عند المصنع، أنهم غادروا. إثنا عشر من أصل مليوني سوري تحدث عنهم الأمن العام اللبناني. نقسم العدد المغادر على العدد الرسمي المقيم، على عدد ملايين السوريين في جنبات البلد، فنحار في تحديد النسبة التي «هيّصوا» لها وهم يخبروننا أنها قافلة تغادر. ثمة معلومات وصلت للتو عن باص إنطلق «طوعاً» من مقرّ دائرة الأمن العام في النبطيه الى مركز الأمن العام في المصنع الحدودي. العدد كسر الكسور أيضاً وأيضاً. في جرود عرسال العدد أكبر بقليل. وزير الشؤون الإجتماعية هكتور الحجار، بعد انكفاء عصام شرف الدين عن المشهد، يتباهى بصوته الواثق: «القرار اتخذ، العودة ثم العودة، وسنستمر». نسمع عن عائدين ونرى، بأمّ العين، واصلين. وعدد الواصلين أعلى بكثير. نتذكر أن العهد يحتاج الى انتصار قبل انتهائه فنفهم الحدث ولبّه. ونتذكر أن ليس كل انتصار إنتصاراً وأن لا احتيال أكبر من الوعد الذي لا يتمّ الوفاء به وأن كثيراً من الوعود ليست إلا كذباً على قاعدة: على الوعد يا كمون.

 

ضيافة سورية على أرض لبنان

 

ما لنا ولوعودهم ولندرك ما نراه. السوريون عند المصنع أكثر بكثير من اللبنانيين. إنهم أصحاب المحال المنتشرة على الميلين وسائقو معظم آليات «التوك توك». بعد اجتياز ضهر البيدر يزداد عددها وتكاد ذات الثلاثة دواليب تتفوق على السيارات الكارجة على الأربعة. مضيافون يبدون: «شرفينا ع فنجان قهوة». نشكرهم على حسن الضيافة في بلادنا ونسألهم عن «توك توك» الذي يسرح في المنطقة؟ أحد السوريين ولقبه «الفطحل» يخبرنا: «سعره 2700 دولار وإيجاره اليومي 100 ألف ليرة لبنانية ويمكن «تفويله» بـ 400 ألف ليرة بنزين (حسب تسعيرة البارحة)، اي ما يوازي تسعة ليترات من البنزين، والتفويلة تكفي لـ 400 كيلومتر» الكيلومتر بألف. يا بلاش. هو خبر ممتاز جذاب لمن يحرق أسبوعياً في بيروت الملايين. نسأل «الفطحل» عن أمانه فيجيب «وقع معي ثلاث مرات. الهواء يجعله يلتوي ويقع. وهو يسع بين شخصين وثلاثة وكلفة التاكسي من المصنع الى عنجر 50 ألف ليرة. والأعطال فيه قليلة، يحتاج الى تشحيم وزيت كل 15 يوماً. وحمولته 250 كيلوغراماً».

 

مركبات الـ»توك توك» التي تسير على ثلاثة دواليب رفيعة مسجلة لدى مصلحة تسجيل السيارات لكن الدرك يمنعونها من حين الى آخر، فهي مسجلة لأغراض شخصية لا لنقلِ العموم. وهي مرقمة بحسب المناطق. فالمركبات في مجدل عنجر مسجلة تحت حرف M وهناك ما لا يقل عن 300 مركبة منها تعمل. إنها صناعة هندية. وبينما نصغي الى الفطحل يتدخل لبناني من عنجر متذمراً: «يا ويلهم من الله. إنهم يشفطون اللقمة من افواه أطفالنا». يتحدث الرجل عن السوريين في المنطقة مردداً ما هو مضحك – مبكٍ «البارحة صعدت الى تلة قريبة محاولاً مناجاة الطبيعة فجلست على حجر فأطلّ رجل من تحته وقال لي «شلونك أخي». يضحك الفطحل لكلامه قبل أن يشعر باستفزاز وهو يسمعه يقول: «هناك أكثر من 25 مليون سوري هنا ويخبروننا عن قافلة غادرت باثني عشر سوريا». يتدخل الفطحل قائلا: «لماذا تغالون هكذا ليس في سوريا 25 مليونا فكيف بهذا العدد في لبنان؟». اللبناني طبعاً بالغ في ما قال. ضرب الرقم المقدّر بعشرة. لكنه يتكلم بحرقة قلب.

مشاهدات

 

أطفال سوريون يذهبون ويجيئون. إنهم يعملون عند بقعة المصنع. يحملون الأثقال عن النساء مقابل مبلغ ألفي ليرة لبنانية. والطفل علي واحد منهم. يقول أحد الواقفين هناك: «علي أكبر مهرب. فيصرخ فيه الطفل «كول (…)». ويلطمه على بطنه ويركض.

 

بين الجدّ والمزاح يمضي الواقفون عند المصنع نهاراتهم. تلمع السماء ويهدر صوت البرق فيرتجف بعض الصبية ويصرخون: «إسرائيل تضرب» فيقهقه على حالهم أحد الرجال قائلا «تضربوا إنتو وإسرائيل». وتبدأ السماء برمي الأمطار بغزارة فيركض كل واحد في اتجاه. عشر دقائق وتهدأ الأمطار فيخرج الجميع من أوكارهم. نستمرّ واقفين، بين السوريين، بانتظار قافلة ما لنازحين سوريين تصل من مكان ما. أحد السوريين يدعونا الى فنجان قهوة عند «قهوة حدودية» فيقول رجل لم يفارقنا طوال الوقت «ما بينفعوا إلا بعضن. أنا مالك تلك القهوة (ويشير الى قهوة مجاورة) لكنني اضطررت الى إقفالها لأن السوريين يشترون من سوريين» ويتابع «أراهن أن في البلد اليوم أطفالاً سوريين، أعمارهم بين شهر وعشرة أعوام، أكثر من مليونين، وهناك بين عشرين وثلاثين عاماً حوالى ثلاثة ملايين. الله لا يوفق (…)». الأرقام وجهة نظر. ويبدأ بسيل من الشتائم .

 

محال بيع الأدوات الكهربائية كثيرة. محال بيع قوارير الغاز كثيرة. نسأل عن ثمنها فارغة فيجيبنا البائع: 25 دولاراً. محال الصيرفة أيضا كثيرة وأكثر منها الصيارفة المتجولون. أحد الصيارفة وضع تنبيهاً: الصيارفة في الخارج يحملون عملات مزيفة. نسأله عن العملات الصحيحة والمزيفة فيجيبنا «هناك مزاحمة شديدة لنا من الصيارفة المتجولين لذلك وضعت هذا التنبيه. أتت المخابرات وسألتني عن الموضوع فقلت لهم: أريد أن أسترزق». نسأله عن أسعار العملتين اللبنانية والسورية مقابل الدولار فيجيب: كل 100 دولار أصبحت تعادل اليوم 510 آلاف ليرة سورية. هي ارتفعت في لحظات، في أقل من يومين، من 4 آلاف و900 ليرة الى 510 آلاف. مثلهم مثلنا ومثلنا مثلهم». يقترب أحد الصيارفة المتجولين ممسكاً بنقود سورية ويقول: «الرزق على الله. لكن صاحب هذا المحل عينه في غيره. هو يقول إننا نعرض عملة مزورة كي لا ننافسه والبارحة أتت المخابرات واستجوبته وعادت وغادرت. مدعوم هو». يعود البرق والرعد فيركض الصيرفي ليلطي رأسه تحت لوحة إعلانية.

بوابة الإقتصاد

 

نتسلى في هذا الوقت في قراءة أمثال وعِبر على مركبات التوك توك: «يا وسعي بنطلونك يا عطيني رقم تلفونك»، «أنا بألف خير وهني بألف ليرة»، «يا عالماً بحالي عليك اتكالي»، «يا عفو الله»… تهدأ الأمطار فنتابع جولتنا عند المصنع. شاحنات كثيرة تصل الى جمارك المصنع تُرى ماذا تحمل؟ نسأل في المكتب الجمركي المحاذي لصاحبه هاني الجوهري فيجيبوننا «هنا، عند معبر المصنع، بوابة لبنان الى الأردن والعراق والخليج العربي. تصل البواخر الى مرفأ بيروت محملة بالمستوعبات التي تعبر في لبنان ترانزيت الى سوريا، لأن العقوبات المفروضة عليها تمنعها من الإتيان بما تريده عبر مرفئي طرطوس أو اللاذقية. هي بضاعة تأتي الى سوريا من أوروبا ودولة الصين. أما المواد التي تستوردها سوريا من لبنان فتخضع جميعها الى موافقة مسبقة منها. لا تستورد سوريا قطعة بسكويت من لبنان في حين أن منتجاتها المتنوعة من السكاكر والبسكوت تدخل الى لبنان. هي تستورد من لبنان فقط ما تحتاج إليه بعكس لبنان الذي يسمح بإدخال سلع تغرقه وتنافس منتجاته. تستورد سوريا فليكسي من الشركة المتحدة في لبنان وروليت التغليف» ويستطردون بالقول: «أحد الصناعيين السوريين، من أصل حلبي، أتى في أوائل الأزمة السورية وفتح معملا للبسكويت في نهر ابراهيم Elegance، فتحنا له خط تصدير الى سوريا لكنها قررت أن توقف إجازة تصدير منتجاته إليها كي لا تغرق سوقها المحلي. هناك يحاولون أن يمسكوا بزمام الأمور أما هنا فيكثرون من الكلام ونقطة على السطر».

 

صناعيون سوريون أتوا الى لبنان إبان الأزمة في بلادهم عادوا وغادروه الى تركيا التي قدمت لهم كثيراً من الإعفاءات وكهرباء 24 على 24. هؤلاء غادروا، هشلوا، قوافل قوافل أما النازحون فيغادرون، على عكس كل الكلام، فرادى. وإذا قررت عائلتان أو ثلاث المغادرة يصورونها على أنها إنجاز لكن، ماذا يضمن أن لا تغادر من البوابة الرئيسية وتعود من الشبابيك المخلعة؟ سؤال لا نتوقع أي جواب له.

مخلصو الجمارك عند المصنع «ينقّون» كثيراً. إنهم يتحدثون عن البضائع التي تغادر الحدود الى الخط العراقي بو كمال وخط نصيب الأردني وجديدة يابوس السوري لكنهم قلقون كثيراً من استمرار إقفال خط باب الهوا مع تركيا. كلفة معاملات نقل الشاحنة من لبنان الى سوريا، سواء فيها كيلو واحد أو 25 طناً، هي 1500 دولار… اخبار أخبار لا تنتهي بينها أن السوق الخليجية تستمر مقفلة أمام التصدير اللبناني، لذا يضطر المصدرون الى إنزال البضائع في العقبة في الأردن من أجل إعادة نقلها الى الخليج على أنها آتية من قلب الأردن- من منشأ أردني. كما يتحدثون عن أسعار باهظة تفرضها الصين على الإستيراد المباشر منها الى لبنان، لذلك يأتون بالبضائع الى جبل علي في دبي أو العقبة في الأردن، ثم ينقلونها الى لبنان وذلك بكلفة أقل.

 

نكون في مكان فنصبح في آخر. نكون في أزمة النازحين و»قوافل» المغادرين الذين وعدنا بهم فنصبح في الإستيراد والتصدير. وفي كلِها وكأننا نلعب «بيت بيوت» في ظلّ رجال دولة هم دمى ويلعبون بنا مثل الدمى. لكن، لا بُدّ لليل في آخر المطاف أن ينجلي.