كم أصبح هيّناً إنهاء كل جرائم القتل والدم بالنسيان
«يا إمي اللي بالسما يا حاملي هموم الناس، صلاتي بقدما إلك بهالقداس، بالصلاة وبالإيمان أغمرينا بالسلام والهنا والأمان»… في كلِ مرّة يردد أهل الضحايا، الذين اغتصبوا، الذين طعنوا بالسكاكين، الذين خنقوا بأكياس النايلون والمغيط، هذه الصلاة ويمضون العمر يذرفون الدم بدل الدموع. لكن القتلة لا يُردعون. ميريام الأشقر، ريا الشدياق، جوزف طوق، إيلي متى… واللائحة تطول تطول… والمرتكبون سوريون. بالصدفة أم تخطيط وإجرام؟ السوريون – بعض السوريين – الضعفاء قد يصبحون وحوشاً مفترسين إذا أتيحت لهم الفرصة وإذا كانوا يشعرون بالحقد على الحياة والمجتمع. والمصيبة، في كل مرة، تكمن في صمت الأخيار لا فقط في ظلم الأشرار!
في كلِ مرة تقوم القيامة، نظنها جازمة حاسمة نهائية، الى أن ننساها فتهدأ وننهمك في شؤون أخرى، الى أن نعود من جديد إليها، الى النقطة الصفر، مع جريمة أخرى يقترفها نازح جديد، نازحون جدد، فتتجلى صورة بشعة، كريهة، أليمة حتى النخاع، تستدعي أن نجدد السؤال: هل اللبنانيون اصبحوا في خطر؟
تعلمنا أن نقول عن مجرم إقترف جريمة: إرتكب المجرم جرمه، لا أن نقول: إرتكب سوري أو فلسطيني أو أميركي أو فرنسي أو لبناني أو عراقي جرماً. لأن في ربط الجاني بجنسيته عنصرية. فالمجرمون لا يعرفون ربّاً. واللطف مع الأشرار أحياناً جريمة ضدّ النفس. لذا، فلنعترف – بعيداً عن أيّ عنصرية – أن الفقر يؤدي أحيانا الى الجريمة. والسوريون – بعض السوريين – الذين يعيشون بيننا، مثل الفطر، أصبحوا يأكلون من أطباقنا ويبصقون فيها. فهل هي عنصرية أن يطالب اللبنانيون بأن يغادروا أرضهم؟ هل علينا أن نسامح؟ من الآخر، التسامح يصبح جريمة عندما يُطبق على الشرّ.
حكاية الشر
إيلي متى (17 عاماً) كان يستحق أن يكبر ويتعلم وينجح ووالداه ميشال ورانيا كانا يستحقان أن يرياه شاباً «قدّ الدني كلها» وشقيقتاه جويل وكارن كانتا تستحقان أن تشكلان معه قوّة ثلاثية، فيسندون الكتف على الكتف، في مواجهة الأشرار الكثيرين في هذه الدنيا. وكان يا مكان. السوري أحمد العلي (19 عاماً)، الذي يسكن ووالدته في الجوار، طعنه 30 طعنة وأرداه. فانتهى عمر إيلي لكن حكاية الشرّ لم تنته. حصل ذلك في بلدة عقتنيت.
تبعد عقتنيت عن بيروت 53 كيلومتراً. موجودة في قضاء صيدا وتحوطها الغازية ومهمارية ومزرعة القنيطرة وقناريت وبنعفول. هي بلدة هادئة – أو كانت هادئة – تشبه إيلي بهدوئه وتهذيبه. هو كان يضع نظارات سميكة على عينيه تمنحه جديّة. لكن، هو صارع الشرّ كثيراً في صبيحة ذاك اليوم الذي قرر السوري أحمد العلي طعنه حتى الموت. هو مات ثلاثين مرة قبل أن يموت. ومذاك أصبحت عقتنيت مثل التيار الجارف تنادي بصوتٍ واحد: لا للنازحين السوريين في أرضنا. هو أقل ما يمكن أن يقال. هو القهر الذي ليس مثله قهر. هي رائحة الدم التي لا تزال تفوح في الأرجاء قوية. إيلي ميشال متى احتفل بالصلاة عن راحة نفسه في كنيسة مار جرجس في البلدة والنازحون غادروا عقتنيت. لكن، هل نقول: إنتهت القصة هنا؟
هينٌ إنهاء كل قصص الدم بالنسيان، لكن هل ما ننساه ينسانا؟
من يضمن أن لا تتكرر قصة عقتنيت كما حصل في 2017 في مزيارة وكما حصل في 2020 في بشري وكما حصل في 2011 في ساحل علما. جوزف طوق قُتل قبل عامين، في مثل هذا الشهر، في بشري. قتله السوري محمد. وميريام أشقر، الصبيّة المليئة بالحبّ، قُتلت قبل 11 عاماً، في مثل هذا الشهر ايضاً، في ساحل علما. قتلها ناطور الكنيسة المجاورة. وريا الشدياق قُتلت قبل خمسة أعوام في مزيارة. قتلها ناطور قصر ذويها السوري باسل حمودي أيضا… كثيرة هي قصص الشرّ. قصص الملائكة والأشرار لا تنتهي. فهل هي عنصرية بدعوة النازحين السوريين الى العودة الى بلادهم؟
العنصرية هي التمييز بين الناس من دون وجه حقّ. هنا، في حالات الشرّ المتكررة، أصبح هناك حقّ. خصوصاً حين يطلّ وزير الداخلية بسام مولوي ليقول: «تُظهر بيانات الجرائم في لبنان من قتل وسرقة وسلب ونهب أن 90 في المئة من الذين قُبض عليهم هم من الجنسية السورية. ومن أصل 42 في المئة من غير اللبنانيين في السجون اللبنانية يشكل السوريون نسبة 30 في المئة». هي كلفة النزوح.
هناك من يبتسم الآن في سرّه مستخدماً القضية قميص عثمان في أهواءٍ سياسية، مشيراً بإصبعه الى من فتح أبواب البلد في البدايات أمام من هربوا من بطش نظام الأسد. فليبتسم ذاك كما يشاء، فهناك سوريون أشرار، كما هناك لبنانيون أشرار، وهناك أناس من كل الجنسيات طيبون. والقضية التي يعاني منها اللبنانيون هي ترك «دولتهم» الأمور على غاربها وسماح الأمن العام اللبناني، للسوريين الذين يذهبون الى سوريا بالعودة الى لبنان. هؤلاء، بحسب أحد الناشطين داعمي الثورة السورية، يجب ألاّ يعودوا، كما يجب أن يُمنع كل سوري اقترع لبشار الأسد من البقاء في لبنان. يُحبه؟ فليذهب إليه. أزمة نزوح السوريين الى لبنان بحاجة اليوم وبإلحاح الى حلول لأن تأثيرها كبير كبير على كل المستويات. وتأتي مشاهد الموت، تأتي وجوه إيلي وميريام وريا وجوزف ووجوه آخرين كثيرين وجرائم لا تعدّ ولا تحصى بينها الإعتداء الوحشي على الأخت أنطوانيت زيدان، من الراهبات الأنطونيات، التي وجدت مقتولة الى جانب الريجي، على طريق كفرشيما، وظهرت خدوش وكدمات على وجهها وفي كامل أنحاء جسمها وقيل يومها أنها تعرضت الى اعتداء. لماذا نذكر اليوم موت الراهبة المأسوي؟
ببساطة، لأن هذا الشكل من الموت ملاصق دائما لأساليب استخدمها أشرار صودف أنهم جميعاً سوريون. بعضهم تم القبض عليه. بعضهم موجود في السجون. وبعضهم لم يتم إلقاء القبض عليه. هناك أسماء نسيناها وهناك أسماء نتذكرها. ثمة حادثة هزّت منطقة الكرك زحلة قبل أشهر بعدما طُعن مواطن لبناني على يدّ لاجئ سوري وانتشرت حينها رسائل صوتية عبر وسائل التواصل الإجتماعي تدعو للنزول الى الشارع وطرد السوريين. وفي النبعة حصلت في تموز الماضي جريمة مروعة نتج عنها مقتل شاب لبناني على يدّ شبان سوريين. وساد كثير من التوتر والقلق في المنطقة جراء ذلك وكاد الأمر يتطور الى إشتباكات. وكلما غصنا في الحالات كلما تأكدنا أكثر أن السكاكين في أيدي السوريين وجيوبهم قد أصبحت خطراً عظيماً في البلاد. فهؤلاء قد لا يحملون سلاحاً تلتقطه أجهزة الإنذار بل يكفيهم سكين في الجيب وكيس نايلون و»مغيطة» وشرشف ممزق، كما الأدوات التي استخدمت يوم قتلت ريا الشدياق بعد اغتصابها. يومها ايضاً قامت القيامة على النازحين السوريين وتكلم الكهنة في الكنائس ودعوا الى عدم السماح الى السوريين باستئجار بيوت في بشري وكسروان والمناطق وقالوا: كنا نبني بيوتنا لأولادنا فبتنا نبنيها للغرباء.
رائحة الذكرى
أهل ريا وميريام قالوا يوم قتل مجرمون قلبيهم: اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون. هي قوّة المسامحة. لكن رائحة الذكرى تلتصق دائما بكل الأشياء، بكل الأماكن، بكل الأفعال، فلا نسيان ولا تناسي يجديان . هؤلاء عاشوا الذكريات الأليمة الشنيعة من جديد. تجددت فيهم يوم رأوا صورا تسربت للفتى ايلي غارقاً في دمائه ورأوا نظاراته مرمية، محطمة، والوجه الملائكي بلا حياة. والأسوأ من كل ذلك، أن من اقترفوا الأفعال الشنيعة عادوا يقدمون العزاء. هذا ما فعله أحمد العلي في عزاء إيلي متى. هو يسكن مع والدته بالقرب من بيت ذوي ايلي. اقترف فعلته بدافع السرقة وعاد ليقدم واجب العزاء. هذا ما حصل يوم قتلت تالا وريما وباسمة ومنال صفاوي في بلدة أنصار على ايدي لبناني، بمعاونة سوري، داخل مغارة مهجورة. فلتعلق المشانق. نعم، ما عاد يجدي شيء غير المشانق علها تجعل من لديهم سمات الإجرام يتخيلون أنفسهم معلقين إذا اقترفوا غاياتهم. هنا، تقول باميلا حنينه بو غصن، الإختصاصية في علم الجريمة: «دائماً ما يعود المجرم الى مسرح الجريمة. فغالبية من يقترفون الجرائم الشنيعة لديهم شخصية psychopath- أي الإضطراب في الشخصية الذي يتسم في السلوك المعادي للمجتمع وضعف التعاطف والميل الى العنف والأنانية – وهؤلاء يعودون ليتلذذوا بما فعلوه، كما ان هؤلاء يعتقدون أن وجودهم في مسرح الجريمة يبعد عنهم الشبهة. إنهم يحاولون تضليل العدالة بوجودهم في مسرح الجريمة. كما يحاولون الإقتراب من رجال الأمن وإعطاء معلومات غير صحيحة». هذا ما فعله قاتل الفتى الجميل إيلي متى.
لا للنازحين السوريين في لبنان. هتاف كثير سمعناه في اليومين الماضيين، كما قبل أشهر وأعوام وعقود. لكن، ما يفترض الإصغاء إليه هو: اين الدولة من كل ذلك؟ المخابرات نجحت في جريمة قتل إيلي وريا وميريام بالقبض على المنفذين لكن اين تكون الدولة، بأمها وأبيها، بين جريمة وجريمة. هذا هو السؤال. البارحة، قبل أقل من شهر، أتحفنا ببيانات عن إعادة سوريين الى بلادهم. عددهم لم يزد عبر بعض المداخل الحدودية عن عدد أصابع اليد الواحدة. لكن ماذا عمن يدخلون يومياً عبر الحدود الفالتة؟ وماذا عمن يخرجون ويدخلون بلا إذن أو دستور؟ #أطردوهم هو هاشتاغ استخدم في اليومين الماضيين بكثرة. السوريون غادروا بلدة عقتنيت لكن الى بلدة أخرى. البلدات في خطر. الإجرام يكبر. الفلتان يزيد. النازحون يحملون، صغاراً وكباراً، سكاكين. لبنانيون كثيرون مثلهم. لكن، ألا يكفينا ما فينا؟ ألا تكفينا الجرائم والسرقات التي يقترفها لبنانيون يومياً؟ فلتكن حادثة إيلي متى حافزاً هذه المرة لاتخاذ قرار جريء في الموضوع يريح كل من لديه أولاد وبنات يربيهم برموش العينين ويخاف عليهم من مجرم على شاكلة أحمد العلي. ليس جميع السوريين النازحين مجرمين وليسوا جميعهم شرفاء. فليخضع الجميع الى قانون يُحدد أطر وجودهم الى حين يعودون الى بلادهم التي أصبحت أفضل بكثير من بلادنا. الجرائم ما عادت تحتمل.
ريا الشدياق ردّ أهلها على جريمة قتلها بإنشاء جمعية باسمها. واجه هؤلاء الشرّ بالخير. ميريام الأشقر ردّ اهلها بالمسامحة وبالصلاة لمجرم نهايته في جهنم الحمراء. هؤلاء يحاولون أن يسامحوا كي يرتاحوا. لكن، الدولة لا تسامح بل تقاضي. وما حصل وما قد يحصل بعد من مسؤولياتها. إنها المذنبة الأولى. هنا، قبل أن نضع نقطة ختامية نتذكر ليلى رزق، الصيدلانية في بولونيا، هي أيضا ذبحت على يد سوري. يا الله يا لوجع عائلات كثيرة سببها ملف مفتوح على إهمال وإستلشاق.