أكثر ما يحتاجه اللاجئون في لبنان أو بعضهم، هو الحقيقة. أن يعرفوا أننا لسنا شعباً واحداً في دولتين، أو قُطرين سلخهما الإنتداب عن الخارطة الأمّ. لكلّ منّا تاريخه وهويته ووطنه. هذا التمايز ليس مفاضلة أو تمييزاً عنصرياً، بل أمانة للشعبين والبلدين. فتزوير التاريخ يُبيح استباحة الجغرافيا. أخطر ما تحمله الشعوب في هجرتها أو نزوحها أو لجوئها إلى بلد آخر، ليس طلبات الحماية والأمان والعمل ولقمة العيش، بل الأفكار، خصوصاً إذا كانت مُعلّبة في مصانع الآيديولوجيات والقوميّات القاتلة التي تحقن الإنسان بدل تربيته. على اللاجئين أو بعضهم أن يمزّقوا دفاتر «البعث» أقلّه في أماكن لجوئهم، وأن يبدّلوا نظرتهم إلى لبنان ويحترموا تكوينه التاريخي والديموغرافي والسّياسي.
مع تلكّؤ الدولة اللبنانية عن مواجهة اللجوء منذ بدايته، وهي العاجزة أساساً عن معالجة ملفّاتها العتيقة والجديدة، ينمو الغضب في نفوس اللبنانيين الغارقين في انهيارات اقتصادية ومعيشية كارثية. يتمنّون منحهم ميزة «لاجئ»، علّها تحفظ كرامتهم ولقمة عيشهم، أكثر من صفة «مواطن» باتت رديفة لليتم والعوز. تحوّل هذا الوطن من «درّة الشرقين» إلى «خيمة القُطبين».
وحدها صرخات بعض المسؤولين الذين هم على تماس مباشر مع المواطنين، تصدح في فضاء الدولة النازحة عن جلجلة أبنائها. رفع «البشيران» الصوت باسم كل اللبنانيين أو معظمهم. محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، ورئيس بلدية القاع بشير مطر. الأوّل، وضع «الإصبع على الجرح» النازف في لقاء تنسيقي للجمعيات دعت إليه «دار الفتوى» في بعلبك الأسبوع الفائت. الثاني، كشف عيّنة عما تتداوله الأرقام عن «إنفجار سكّاني» قد يغيّر وجه لبنان من قلب المخيّمات.
المحافظ عنصري؟
تكلّم المحافظ بلسان عشرات آلاف موظّفي القطاع العام الذين لا تتعدّى رواتبهم المئة دولار. أشار في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن موقفه ليس مستجدّاً. كرره مئات المرّات أمام هيئات ومنظمات الأمم المتحدة في لبنان، مستغرباً وصفه بالعنصريّ. هذه الصفة باتت تهمة مضافة إلى قاموس التخوين، تجاه كلّ من يريد الحفاظ على مصلحة وطنه وعدم ضياعه تحت عناوين «حقوق الإنسان» واستغلال مفاهيمها، خصوصاً أن بعض المنظمات والجمعيات غير الحكومية تعتاش على الأزمات. يقول خضر إن واقع محافظة بعلبك الهرمل يختلف عن باقي المناطق والمحافظات، كونها الخزّان الأكبر من أعداد النازحين، حيث تخطّت أعدادهم الـ300 ألف نازح، مع الإشارة إلى أنّ الإحصاءات في ارتفاع مستمرّ مع زيادة الولادات. كما بدأت بعض أصوات النازحين وفق خضر، تطالب بمساحات إضافية من أجل إنشاء المخيّمات. ما يشير إلى مدى خطورة الموضوع واتساع رقعة النزوح. وما يخشاه، هو أن نشهد في لحظات من الفوضى تشييد الأبنية في المخيّمات.
وشدّد المحافظ على أنّ البلديات لم تعد قادرة على استيعاب هذا العدد الهائل من النازحين وتأمين البنى التحتية اللازمة. فالقدرة الاستيعابية للبلديات في لمّ النفايات مثلاً وتأمين الصرف الصحّي، كانت على أساس العدد السكاني للبلدة.
خضر الذي أشعل مواقع التواصل الإجتماعي ونال تأييد معظم اللبنانيين حول موقفه في لقاء بعلبك، تفاجأ بمدى انتشار الفيديو وتحوّله إلى «تراند» الأول في لبنان، أكّد أنه لم يكن على علم بما حصل، ولم يقصد أي تسويق لذاته كما اتهمه البعض. كما أشار إلى ردود الفعل الإيجابية الضخمة التي وصلته من قبل العديد من المسؤولين من نواب ووزراء، وأمنيين وقضاة، مثنين على كلامه ومواقفه. في المقابل، استغرب رفض بعض الجهات من جمعيات وأفراد، مناقشة ملف النازحين، فهؤلاء لا يريدون حتى الكلام فيه، خصوصاً المنتفعين من وجود النازحين والذين يتقاضون الـ»فريش دولار». مع الإشارة إلى أنّ المحافظ، يؤكّد حقّ العودة الآمنة للنازحين إلى بلادهم. لكن من يدخل إلى سوريا عبر المعابر غير الشرعية ويعود منها، تسقط عنه صفة اللجوء. ولو كان لديه مشاكل مع دولته لما تجرّأ وذهب إليها ثم عاد إلى لبنان.
أما الذين يصفونه بالعنصري، فيذكّرهم خضر بما فعله لحماية النازحين أثناء الإعتداء الإنتحاري على القاع في العام 2016 الذي أدى إلى سقوط شهداء وجرحى. فرض المحافظ وقتها، حظر تجوّل على النازحين مدّة 48 ساعة، لحمايتهم من ردات الفعل، بعد أن أصبح كل نازح موضع شكّ من قبل الأهالي المفجوعين.
القاع: 33 ألف نازح و5 آلاف لبناني
أما بشير «الثاني»، فموصوف بشجاعته وإقدامه على مواجهة التحديات والوقوف إلى جانب أهله القاعيين، الذي عانوا الويلات في الحرب كما في السلم. فالبلدة نالت نصيبها من الأزمة السورية، مرّة باستهدافها من قبل انتحاريين ومرّات في تحمّل أعباء النازحين السوريين الذين تخطّت أعدادهم الـ33 ألف نازح، مقابل 5 آلاف مواطن من أهالي القاع المُقيمين. يؤكّد رئيس بلديتها بشير مطر أنّهم أول من احتضنوا النازحين وتعاطفوا معهم. ويميّز بين اللاجئين الذين لا يستطيعون العودة لديارهم لأسباب أمنية أو سياسية أو حتى لأسباب اقتصادية، وبين النازحين المستفيدين من «نعم الأمم» عليهم في لبنان.
وكشف مطر أن بعض الأفراد من اللبنانيين سجّلوا أسماء عائلاتهم كنازحين، لافتاً إلى أنه رفع تقريراً إلى «الأمم المتحدة» والجهات المعنية للتدقيق به، لكنه لم يتلقّ أي جواب حتى الآن. كما أردف أنه منذ 11 عاماً لم تعمد «الأمم» إلى تحديد دفتر شروط اللجوء والتحقّق من الذين تنطبق عليهم هذه الصفة. من يدخل إلى سوريا ويعود، من شارك في الإنتخابات بالسفارة السورية، من استحصل على أوراقه الثبوتية والشخصية في الدوائر السورية، ونال هويّته بتاريخ 2022 وقبله، من ينتسب إلى «حزب البعث» ويجاهر بذلك. هل تنطبق على هؤلاء صفة اللجوء ومعاملتهم كبقية اللاجئين المغبونين الذين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم؟
النزوح بات فرصة ذهبية للإستثمار والتجارة. يقول مطر إن بعض النازحين أجّروا منازلهم في بلدهم ويعيشون عندنا كنازحين في مخيمات. بعضهم يخدمون في الجيش السوري وعائلاتهم نازحة في لبنان. لا يخشى مطر من دعوات بعض السوريين على مواقع التواصل الإجتماعي للتسلّح والدفاع عن المخيّمات، «أكتر من يللي صار معنا ما رح يصير» واجهنا الارهاب والانتحاريين ولم نخف. نحن على تنسيق دائم مع الأجهزة الأمنية ومخابرات الجيش ولن نسمح لأحد أن يهدّد وجودنا وأمننا. ومن يدعو النازحين إلى التسلّح يضرّهم ولا يفيدهم.
في الختام، يضحك مطر من الذين يتهمونه على «مواقع التواصل» بالعنصري، فيما «نحن حمينا النازحين بعد الاعتداء علينا في العام 2016. كان بإمكان شعبنا المذبوح إقتلاع المخيمات من جذورها. يريدون استغلالنا بأفكار بالية دفعنا ثمنها غالياً. نحن شعبان في دولتين. لكلّ منا حدوده وسيادته وجيشه». أزمة النزوح باتت عبئاً على الدول الكبيرة كما الصغيرة، الغنية والفقيرة. دول في الإتحاد الأوروبي تخشى انعكاس اللجوء على هويتها وتغيير بنيتها السكّانية. تبحث في إمكانية إعادتهم. بعضهم أقفل باب اللجوء. هل هذه عنصرية؟ أمّ أنه مكتوب على لبنان أن يتحوّل إلى جسر يستورد أزمات الشرق والغرب؟ متى ستهتزّ ضمائر المسؤولين المتحكّمين بمفاصل الدولة؟ أليسوا أكثر «مونة» على النظام أو الدولة السورية في معالجة جذرية لهذا الملف؟ ألم نتعلّم من مخيّمات اللجوء السابقة التي استُغلّت وأشعلت فتيل الحرب الأهلية؟