على الرغم من تعدّد المشاكل والصعوبات التي يمنى بها لبنان الدولة والكيان، تبرز مسألة النزوح والتهجير من سوريا إلى وطن الأرز، خاصة عشيّة قرار الجامعة العربية بإعادة النظام السوري إلى حضن الجامعة العربية بعد اثني عشر عاماً من ابعاده عنها، باعتبارها المسألة الأكثر خطورة وأهمية في تحديد واقع ومستقبل لبنان في المرحلة الراهنة.
ذلك أنّ العلاقة بين لبنان وسوريا كانت بشكل دائم، محكومة بالاعتبارات الوجودية المصيرية بالنسبة لوطن الأرز. ذلك أنّ سوريا طالما نظرت إلى لبنان على أنه جزء اقتطع منها في حين أن البلدين هما شعب واحد في بلدين «كما كان يردد الرئيس حافظ الأسد» وعنده «أن لبنان هو ريف سوري وسيعود إلى بلده الأم». تلك هي الإشكالية الوجودية الكبرى التي تحكّمت تاريخياً بمشاعر ووعي ولاوعي السوريين حاكمين ومحكومين إزاء لبنان (الدولة والكيان) كما تحكّمت «الأنتي» مشاعر اللبنانية في وعي ولاوعي الكثيرين من حاكمين ومحكومين لبنانيين في ازاء سوريا الدولة والنظام!
أولاً: مصداقية الكيانية اللبنانية في شهادتين
إذا تجاوزنا المواقف والعواطف الوطنية الخاصة بلبنان الوطن والدولة، وحاولنا أن نتبيّن مصداقية الكيانية اللبنانية في شهادات كبار الديبلوماسيين وبينهم ديفيد روبرتس وجون غراي السفيران البريطانيان في لبنان في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي:
ففي شهادة السفير روبرتس «أنّ مصداقية لبنان كدولة ذات سيادة تماثل مصداقية أية دولة أخرى في المنطقة» ويضيف «أنّه على جميع الدول أن تدرك أنها ستضمن مصالحها الذاتية من خلال ضمان استقلال وسيادة لبنان ويندر ان تتلاقى المصالح الدولية مع المصالح الوطنية مثلما هي الحال في المسألة اللبنانية».
أمّا السفير جون غراي فيقول: «يمثّل لبنان مكانة هامّة في الجغرافيا السياسية في شرق المتوسط والشرق الأوسطـ، وهناك مصلحة للحفاظ عليه في الموقعين… ذلك أنّ الشعب اللبناني هو شعب حي ولا يستسلم ولا يمكن لبضع سنوات من الحرب ان تلغي أربعة آلاف سنة من التاريخ».
وقبل ان يغادر السفير غراي لبنان (1988) كتب مقطعاً من أبرز وأروع الشهادات في لبنان الكيان قال: «إنّ هذا الجزء من شاطئ البحر المتوسط الذي نسميه لبنان قد هدهد عبر آلاف السنين حضارة مميزة وكان مركز تلاقٍ لثقافات عدّة مئات من السنين. لقد شهد الامبراطوريات تجيء وتروح. ولكن ولا مرة فقد الحسّ بأنه غير هؤلاء الآخرين. لا أعتقد أن لبنان يمكن أن يزول ولا اعتقد أنّ أهله مهما كانت معتقداتهم ومشاربهم السياسية سيسمحون بذلك. ولا أظن أنّ الأسرة العالمية تسمح بذلك. فلبنان يمثّل شيئاً خاصاً وثميناً في تاريخ البشرية. إذا مات لبنان فإنّ فلذة من روح الانسانية تموت معه. ولكن لبنان لن يموت فهو كطائر الفينيق سينبعث من الرماد… للبنان ماضٍ طويل… ومستقبل أقوى…».
… في وحي هاتين الشهادتين الدبلوماسيتين يمكن فهم وتقدير كلام رئيس الدبلوماسية البريطانية، وزير الخارجية جيفري هاو، وهو كلام فاجأ به العالم اذ قال: «إن انهيار لبنان يحمل معه بذور الخطر الذي يهّدد العالم كله».
ثانياً: هموم سوريا وهموم لبنان
1 – الهمّ بالنسبة إلى الدولة، كما هو بالنسبة إلى الإنسان، هو ما يشغل البال ويقلق، ومنه الاهتمام بالأمر أي إعطاؤه عناية وأهمية خاصة، فالصلة واضحة بين الأمرين. إذ أنّ ما يقلقنا نعطيه أهمية خاصة بهدف احتوائه وذلك لارتباطه بمشاعرنا ومصالحنا وحياتنا العامة والخاصة. فالهمّ يولِّد الاهتمام، والاهتمام يحدّد أهداف الدولة وتوجهاتها ويسهم في رسم استراتيجيتها وهي أمور ترتبط إلى حدّ كبير بجغرافيا الدولة: موقعها وشكلها وحدودها وعاصمتها وسكانها وثرواتها وتاريخها وجيرانها ومقدراتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية.
وإذا كان لنا أن نتبيّن الهمّ الأكبر والأساس لدى سوريا فإنه بالتأكيد همّ القنبلة الديموغرافية ذلك أنّ الزيادة السكانية في سوريا هي من أعلى النسب في العالم وتصل إلى نسبة 3,4% أي أنّ الزيادة هي 37 بالألف في حين أنّ المعدل العالمي هو 17 بالألف ما يعني، أنّ عدد سكّان سوريا سيتضاعف كل عشرين عاماً. وهذه الزيادة الديموغرافية العربية – السنية في معدلها العام (نحو70%) تخلق كتلة ديمغرافية تشكّل في المفهوم الجيو- استراتيجي خطراً على مصير اسرائيل هو خطر بطون النساء الحوامل وليس خطر البنادق. من هنا ضرورة اقتلاع هذا الخطر من على حدود اسرائيل الشرقية والشمالية، وهو ما يفسّر عملية التهجير والنزوح لما يزيد عن ستة ملايين سوري من بلادهم إلى بلاد الغربة وفي مقدمها لبنان.
2 – إنّ تواجد السوريين في لبنان بما يقارب نصف عدد سكّان لبنان والموقف الدولي بعدم اعادتهم إلى ديارهم، هو في الحقيقة والواقع قبول ورضوخ للسبب الذي من أجله وقعت الحرب في سوريا عام 2011، وبالتالي فإن تهجير من هجّر من أهل السنة العرب لم يكن مجرّد نتيجة للحرب بل هو في الحقيقة سبب لها. ولبنان في سعيه الحالي لتنفيذ القرارات الدولية حول النازحين ولا سيما القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي فهو يحاول التعاطي مع الشكليات في القرار: حماية المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية، ووقف الأعمال العدائية، والتصدي للارهاب واطلاق سراح المعتقلين وصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة وعودة آمنة وطوعية للاجئين بعد اعادة الاعمار.
3 – إنّ تسميه لبنان عضواً في لجنة النازحين هو إعادة اعتبار لوطن الأرز في مقاربة قضية هو المعنيّ الأول بها. وهنا تكثر التكهنات حول دور لبنان ومصيره في هذه المسألة وفيها رأيان: الاول: يرى ان الماكرو- استراتيجية عملت على إبعاد سوريا عن تحالف شرق – آسيا على خط الصين- ايران- روسيا. والثاني: ان الميكرو- استراتيجية عملت على اعادة سوريا إلى حضنها العربي فلا تبقى رهينة للتجاذبات الروسية – الصينية – الإيرانية. بل تعود إلى انتمائها العربي حتى وان كانت هذه العودة مشوبة باخطار أمنية، وفي هذا يحسب حساب خاص لدور المملكة العربية السعودية في هذا المجال وللأمير محمد بن سلمان ايجاد هذا المخرج للنظام السوري وللنظام العربي في آن.
باختصار ليست مشكلة المهجّرين السوريين إلى لبنان، مشكلة طارئة على العلاقات السورية – اللبنانية ذلك أنّ هموم سوريا هي في معظمها إذا لم يكن في مجملها هموم متصله بلبنان:
• فهمّ دمشق العاصمة هو في قربها من الحدود اللبنانية.
• وهمّ لبنان الواجهة البحرية هو في كونها في منتصف الواجهة البحرية السورية.
• وهمّ سوريا المائية يرتبط أكيداً بالعاصي والنهر الكبير.
• وهمّ اليد العاملة السورية هو في العمل داخل لبنان.
• وهمّ الليبرالية الاقتصادية السورية نموذجها في لبنان.
• لبنان هو افضل حيّز جغرافي يمكن لسوريا أن تمارس فيه نشاطها السياسي والعسكري والاقتصادي.
أجل إنّ لبنان يقدّم لسوريا همّ الأمن بكل أبعاده: الأمن السياسي (السلطة والنظام) وهمّ الأمن القومي (الصراع مع اسرائيل) وهمّ الأمن المائي والغذائي: والاقتصادي – المالي. ما يحصل اليوم هو إضافة همّ جديد ديموغرافي، مهما كانت درجة الخطورة فيه فهو لن يقضي على مصداقية لبنان الدولة.
في 9/5/2023