شعرة رفيعة بين أن يقبل لبنان بمليار يورو رشوة والسكوت على بقاء النازحين السوريين على أرضه، وبين أن يرفضها ويبقوا على أرضه ويُمنع من ترحيلهم. تكاد تكون معادلة الأمر الواقع المفروض على البلد المضيف رغماً عنه، والمحاصر بتخويف الاتحاد الأوروبي، وبتواطؤ بعض رجالاته الذين لا يفتحون البحر
حتى الوصول الى موعد مؤتمر بروكسل قبل نهاية هذا الشهر، لا حديث يتقدم النازحين السوريين وسبل مواجهة تضخّم المعضلة. كل يوم مرّ منذ زيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تتعالى أكثر صيحات تندّد بما بات اصطلاحاً، في السلطة والشارع ولدى الأحزاب والقوى، «رشوة» مليار يورو من الاتحاد الأوروبي للبنان للسنوات الأربع المقبلة. وهو نفسه المبلغ الذي يقدّمه الاتحاد الأوروبي للبنان سنةً تلو أخرى بقيمة 243 مليون يورو، علماً أن الاتحاد الأوروبي لم يسدّد بعد الكوتا المحددة للسنة الحالية 2024. عنى ذلك أيضاً أن لا عودة للنازحين السوريين حتى عام 2027 على الأقل ما لم تسبقها تسوية مصير النظام السوري ورئيسه وعلاقته بالمجتمع الدولي. أما انتخاب رئيس للجمهورية، ففي غياهب النسيان وحرب الإشغال في جنوب لبنان بند ثانوي.إلى أن يذهب لبنان الى مؤتمر بروكسل، على غرار المؤتمرات السبعة السابقة، ينتظر صوغ ورقة العمل التي يحملها معه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على أنها تمثل الموقف الرسمي اللبناني الموحّد، سيصير الى إقرارها في مجلس الوزراء. ما خلا ذلك، الصيحات والصراخ في واد، ومعضلة النزوح في واد.
المأمول من جلسة البرلمان الأربعاء المقبل، بعد أن تدلي الكتل تباعاً بدلوها المعلوم يومياً ونقل السجال من الشارع الى داخل المجلس، الخروج بتوصية الأمر الواقع: مناقشة ما سُمّيَ المساعدة الأوروبية في مجلس الوزراء لاتخاذ قرار بالموافقة عليها أو ردّها، ورفض اقترانها بأيّ شروط مسبقة، وحضّ السلطة الإجرائية على مزيد من التشدد في ضبط النزوح. ذلك أفضل، والأصح أقصى، ما يسع مجلس النواب أن يفعله.
ثمّة ما فعلته المديرية العامة للأمن العام أخيراً. أمهل مديرها العام بالإنابة اللواء إلياس البيسري المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين أسبوعين لتسليمه الداتا الكاملة للنازحين السوريين المقيمين في لبنان على لوائح المفوضية. هي المدة المفترضة حتى انعقاد مؤتمر بروكسل وتكشّف موقف المؤتمرين من النزوح السوري في لبنان. المعلن الى الآن أنه ليس مدرجاً في جدول الأعمال. الخطوة التالية التي يعتزم الأمن العام اتخاذها، كأحد التدابير المقيِّدة الرامية الى فرض ضغوط على المفوضية، ربط كل إقامة يُصدرها الأمن العام لأيّ نازح سوري بالداتا المكتومة لديها: ملء استمارة المعلومات بما تحتفظ به المفوضية. لا تسري إذذاك قانونية الإقامة إلا تبعاً لمضمون الاستمارة. ما حصل عليه الأمن العام مطلع السنة لا يتعدّى لوائح أرقام وأسماء، لا تاريخ دخول فيها ولا معلومات عن النازح وطريقة وصوله وعنوانه ورقم هاتفه. هي المعطيات الضرورية التي تتطلّبها المديرية لتقصّي أماكن وجود النازحين. ما أخذت المفوّضية علماً به أن المرحلة المقبلة، وفقاً لما يتوقّع أن يحدث، ستشهد إجراءات وتدابير منفردة تقدم عليها الأجهزة الأمنية اللبنانية لفرضها.
أما الشقّ الرئيسي في معضلة النزوح، فيتجاوز كل ما هو جاري الحديث عنه في الداخل حالياً:
1 – ليست مشكلة لبنانية – سورية كي يصير الى حلّها بحوار بين البلدين، سواء كان سياسياً أو أمنياً، بل يصعب الظنّ أنّ في وسع أيّ مرجعية محلية، مهما علا كعبها لدى سوريا، حلّ مشكلة لم تنشأ بين البلدين الجارين، بل كلاهما أضحى ساحة لما هو أدهى: سوريا ساحة حرب إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ولبنان بدوره ساحة تصفية الحساب والانتقام من استعصاء إسقاط الأسد بجعله ملجأ النازحين وتدفّقهم عليه بلا ضوابط وإبقائهم فيه. ذلك ما يجعل بعض الأفرقاء، والسلطات الرسمية أولاً، تغالي في توقّع نجاحها في التفاهم مع دمشق على حلول جزئية متدرّجة لتخفيف عبء النزوح في مرحلة أولى. هو ما رامه تكليف البيسري زيارة العاصمة السورية في موعد غير محدد بعد، لمناقشتها في استردادها سوريين تكتظّ بهم السجون اللبنانية، صدرت في حقهم أحكام جنائية مبرمة.
لا معطيات إيجابية الى الآن تتيح حصول الزيارة، مع أن لبنان الرسمي على دراية تامة بما يزيد على مئات سجناء سوريين هم في فئتين: الصادرة في حقهم أحكام جنائية مبرمة، والإرهابيون والمطلوبون من الدولة السورية. الأوّلون يسهل تسليمهم بتفاوض مباشر كما لو أن المقصود خفض الاكتظاظ في السجون لا خفض أرقام النزوح غير الشرعي. أما الأخيرون فيمانع الأميركيون والأوروبيون ترحيلهم من لبنان. هؤلاء في عُرفهم «ثوار» و«مقاومون» لنظام الأسد ما داموا في لبنان. لكنّهم «إرهابيون» ما إن يطأوا شطآن القارة العجوز.
2 – ينقسم تناقض الأفرقاء اللبنانيين، في السلطة والأحزاب والشارع، في مقاربة الحوار مع سوريا لمعالجة المعضلة كما لو أن هذا الحوار هو الذي يحلّها. بين هؤلاء مَن يريد التخلص من النازحين الاقتصاديين وغير الشرعيين بلا التحدث مع سلطات دولتهم لاسترجاعهم، وبينهم مَن يجد في الحوار سبيلاً الى خطوات متدرّجة. أما داخل السلطات الرسمية فالتناقض مماثل: فيها مَن يريد الحوار مع دمشق أمنياً فقط لتفادي أيّ اعتقاد بأنه تطبيع سياسي. في ظنّ هؤلاء جازمين أن الهرم يقف على رأسه لا على قاعدته. وفيها مَن يقول إن السياسة تغطي الأمن لا العكس يقيناً بأنّ الحوار السياسي – وهو ما تطلبه دمشق – يفتح الأبواب على مناقشة المشكلة دونما الوصول بالضرورة الى الحل النهائي ما دام النزوح ليس صنيعة نزاع لبناني – سوري.
النزوح ليس مشكلة لبنانية – سورية تحلّ بحوار سياسي أو أمني بين البلدين
3 – أصل مشكلة النزوح وصلبها خارج لبنان، يكمن في العلاقة الصدامية بين نظام الأسد والغرب الأوروبي والأميركي. ما يجمع الأوروبيّين والأميركيّين استمرارُهم في رفض النظام السوري الحالي على النحو الذي يقوده الأسد، وإصرارهم على رفض الاعتراف به وانتظار إقدامه على ما لن يُتوقّع حصوله، وهو إدخال إصلاحات بنيوية في النظام تنقله من حقبة الى أخرى. ما يرومه الغرب أن يحدث في السّلم، وهو تقويض النظام الحالي، ما لم يُقوَّض في حرب استمرت أكثر من عقد من الزمن. بحسب الحجج التي يدلي بها السفراء الغربيون أمام محدّثيهم المسؤولين اللبنانيين أن عودة النازحين تسليم بشرعية الأسد واستمرارها وبقرار خسارتهم الحرب التي خاضوها ضدّه.
4 – لا تقلّ لامبالاة الأسد بعدم إعادة مواطنيه الى بلادهم عن لامبالاة الغرب، وإن لكلٍّ منهما تفسيره وشروطه السياسية. بينما يظن الغرب أن إبقاء هؤلاء في لبنان وسيلة ضغط عليه، يريح الرئيس السوري التخلص من خمسة ملايين على الأقل أشعلوا ضدّه الحرب السورية، ويريحه أيضاً أن النزوح المتفاقم الذي يدقّ بقوة أبواب أوروبا ويقلقها ويقضّ مضجعها يمكّنه من أن يضغط هو بدوره على المجتمع الدولي: لا عودة لهؤلاء قبل إعادة إعمار بيوتهم وقراهم ومدنهم التي دمّرتها حرب تورّط الغرب فيها لإسقاط نظامه.
كلا طرفي الاشتباك، الأسد والمجتمع الغربي، يتبادلان الابتزاز والاتهامات ويحيلان لبنان، بين فكّيهما، أرض مواجهة بإبقاء النازحين على أرضه الى أن يُسوَّى ما بينهما وإن على حسابه. قانون قيصر جزء لا يتجزّأ من المواجهة الضارية هذه.