حسن النية الذي أبدته وزارة التربية في الاستجابة للتعليم أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان لم يكن كافياً لمعالجة النطاق الكامل للأزمة، إذ انصبّت الجهود على استئناف الدراسة، مع إيلاء القليل من الاهتمام لجودة التعلم، ولا سيما في ما يتعلق بملاءمة التعليم «أونلاين» والحضوري على حدّ سواء. وبحسب دراسة أجراها مركز الدراسات اللبنانية عن «التأثيرات المتنوعة للحرب على التعليم»، فرض التحوّل في بداية العام الدراسي، بفعل العدوان، تكاليف اجتماعية ومالية كبيرة، وكشف عن وجود فجوات حرجة في التخطيط الحكومي، رغم أن الحرب كانت متوقعة مسبقاً، ورغم وضع بروتوكولات طوارئ، «فالخطط اعتمدت على بيانات نظرية من دون دراسة ميدانية كافية أو خرائط أو آليات تنسيق».
وكما هو موضّح في الدراسة، «فإن الافتقار إلى بيانات شاملة ومحدّثة عن التلامذة والمعلّمين وكذلك في المدارس، يزيد من تعقيد الجهود لتقييم التأثير الكامل في نظام التعليم. وفي وقت تقدّم فيه تحديثات وزارة التربية بعض الأفكار حول نطاق الأضرار، فإنّها تغطي أقل من 20% من التلامذة في لبنان». على سبيل المثال، ذكرت الوزارة، في بياناتها، أن عدد المتأثرين بشكل مباشر بالحرب بلغ نحو 550 ألف تلميذ، فيما أشارت الدراسة إلى تأثر أكثر من مليون تلميذ، باعتبار أن «أرقام الوزارة لعدد التلامذة المتضررين لا تشمل الأطفال السوريين المسجلين في القطاع العام، والأطفال الفلسطينيين المسجلين في مدارس الأونروا أو المسجلين في التعليم غير النظامي».
كان على وزارة التربية أن تتوقع سيناريوهات مختلفة بما في ذلك احتمال استمرار الحرب وازدياد موجات النزوح
إلى ذلك، لم تُخصّص الحكومة تمويلاً لخطة الطوارئ الحكومية التي أُعلن عنها في تشرين الأول 2023، فيما لم تتلقَّ خطة الطوارئ لوزارة التربية، التي بدأ تنفيذها في 4 تشرين الثاني الماضي، تمويلاً من الخزينة العامة، إنما تعتمد على تمويل المنظمات الدولية والأهلية لجميع أنشطتها، علماً أن تدخلات هذه المنظمات اقتصرت على تغطية كلفة تجهيز المدارس للمأوى وتقديم خدمات الإغاثة. وتلقّت الوزارة وعوداً بالحصول على تمويل من الصندوق الائتماني للتعليم التابع لوزارة التربية واليونيسيف، لضمان توفير الموارد التعليمية اللازمة مثل الكتب المدرسية، ولضمان قدرتها على توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي الحيوية والفحوص الطبية لمساعدة الأطفال على التكيف مع آثار الحرب. كذلك تعهّد حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، برعاية تعليم 40 ألف تلميذ عبر منظمات المجتمع المدني، لكن في غياب أي أرضية في لبنان للتعليم الرقمي. أما وزارة التربية فلا تزال تعاني مشكلات في تأمين رواتب المعلمين وتصحيح بدلات أجورهم والاتفاق على الحوافز أو بدلات الإنتاجية.
الدراسة تناولت التأثيرات المتنوعة للعدوان، مع تسليط الضوء، بصورة خاصّة، على التفاوتات التعليمية المتزايدة والصعوبات المعقدة التي تواجهها الفئات الضعيفة من السكّان، بما في ذلك الأطفال ذوو الإعاقة وأطفال اللاجئين السوريين. وأظهرت أنّ العدوان تسبّب في مجموعة من الاضطرابات المادية والنفسية التي أدت إلى تقويض الاستقرار المطلوب للمشاركة التعليمية الفعالة. مع ذلك، واصل عدد كبير من الأهالي والمعلّمين إعطاء الأولوية للتعليم، وتسليط الضوء على منافع عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.
إلا أن الدراسة كشفت عن تباين واضح في الاستعداد للعودة إلى الصفوف، وهو ما يتأثر بالظروف الصعبة المباشرة التي تعيشها العائلات النازحة. ففي المناطق المتضررة بشكل مباشر من العدوان، يرى أقل من 50% من أهالي التلامذة التعليم أولوية عالية، في حين يشارك نحو 20% من المعلمين فقط هذا المنظور. وأعرب أكثر من 50% من المعلمين في المناطق المتضررة عن عدم استعدادهم لاستئناف التعليم، في ظل الظروف الحالية.
وعلى النقيض من ذلك، أظهر نحو ثلثي الأهالي في المناطق غير المتضررة الاستعداد لاستئناف أطفالهم للتعليم. في المقابل شعر نحو ربع المعلمين فقط بالاستعداد للعودة إلى المدرسة بحلول 4 تشرين الثاني، وأعربوا عن الحاجة إلى وقت إضافي للتخطيط بشكل مناسب للواقع الجديد الذي يواجهونه.
يظلّ الأطفال ذوو الإعاقة والتلامذة اللاجئون السوريون والفلسطينيون من بين الفئات الأكثر ضعفاً من السكّان في هذه الأزمة. وحتّى الآن، تُستبعد هذه المجموعات من الأطفال من الخطط التعليمية الجارية، إذ لم يجرِ ذكرها أو إشراكها في خطط وزارة التربية. في الآونة الأخيرة فقط، أصدرت الوزارة مذكّرة بشأن تسجيل اللاجئين السوريين من دون أن تحدد موعداً لبداية العام الدراسي حتى الآن.
وتسلّط الدراسة الضوء أيضاً على وجهات النظر المختلفة بشأن أسلوب التعليم، فيظهر المعلمون في المناطق المتضررة بشكل مباشر من الحرب تفضيلاً أقوى للتعلم «أونلاين» بسبب المخاوف المتعلقة بالسلامة، إذ يفضل ما يقرب من ثلثيهم هذا النهج. وعلى النقيض من ذلك، يُظهر الأهالي تفضيلاً أقوى للتعليم الحضوري. في المناطق الأقل تضرراً من الحرب، تفضّل نسبة أكبر من الأهالي والمعلمين التعليم الحضوري، «ما يشير إلى أن حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار في مناطق الحرب تدفع نحو المطالبة بوجود خيارات أكثر مرونة تشمل التعلّم عن بعد».
لكن التحديات المرتبطة بالتعلم «أونلاين» واضحة، ولا سيّما بالنسبة إلى العائلات النازحة، فالكثير منها يفتقر إلى الموارد اللازمة مثل الإنترنت الجيد والكهرباء والأجهزة الرقمية. كما تنتشر مشكلات الاتصال على نطاق واسع، حيث أفاد نحو 60% من المعلمين و50% من الأهالي بعدم إمكان الوصول إلى الإنترنت. وعلاوة على ذلك، يمتلك 50% من المعلمين و20% من أولياء الأمور فقط جهاز كمبيوتر أو «تابليت».
في مجال آخر، أكّد أكثر من ثلثي المعلمين الحاجة إلى الدعم النفسي، وأشار ما يقرب من النصف منهم إلى أن أطفالهم يحتاجون أيضاً إلى مثل هذه المساعدة. وعلاوة على ذلك، أعرب نحو 20% من المعلمين و25% من الأهالي عن الحاجة إلى دعم النقل لتسهيل الحضور إلى المدرسة.
إلى ذلك، تسبّبت المصاعب المالية التي يواجهها المعلمون، في تدني أجورهم إلى ما بين 200 و500 دولار شهرياً، فيما المعلمون المتعاقدون هم الحلقة الأضعف.
ووفقاً للدراسة، كان على وزارة التربية أن تتوقع سيناريوهات مختلفة، بما في ذلك احتمال استمرار الحرب وازدياد موجات النزوح، وأن تخطط وفقاً لذلك. «وعبر التخطيط الشامل والاستباقي فقط يمكن لنظام التعليم في لبنان أن يخرج من الأزمة أقوى وأكثر مرونة، وأن يوفر لجميع الأطفال التعليم الجيد الذي يستحقونه». كما كان على الخطة التربوية لحظ توقف الحرب وعودة الأهالي إلى قراهم وتفصيل التدخل حسب المناطق، فللقرى التي ما زالت محتلة تدبير مختلف عن المناطق المحاذية للشريط المحتل، ومختلف عن القرى والمدن والمناطق التي عانت من قصف مركّز مثل النبطية والضاحية الجنوبية لبيروت حيث دمرت المنازل وانتقل الأهالي إلى أماكن أخرى.
ما حصل أن خطة الوزارة اقتصرت على الاستمرار بالتعليم «أونلاين» في عدد من مناطق الجنوب والضاحية من دون تأمين مستلزمات هذا التعليم بشكل فعلي. هي خطة ورقية إدارية غير قابلة للتطبيق بغياب عدد من مستلزماتها وانحصار جاهزية الوزارة بالأعمال الإدارية حصراً تاركة التنفيذ على جهات ثالثة.
نصف التلامذة السوريين تسجّلوا في المدارس الرسمية
54 ألف تلميذ سوري تسجّلوا حتى الآن فقط في مدارس بعد الظهر من أصل 110 آلاف تلميذ تقول وزارة التربية إنهم كانوا موجودين في لبنان خلال الحرب الأخيرة، فيما تفصل 6 أيام فقط عن انتهاء مهلة تسجيل التلامذة في 18 الجاري.
وربما تحتاج الوزارة إلى جمع «داتا» جديدة نتيجة التغيرات المستجدّة في سوريا لإحصاء عدد التلامذة في عمر المدرسة، والذين يتطلعون لمتابعة تعليمهم في لبنان، وأن تتخذ التدابير المناسبة على هذا الأساس لجهة تحديد عدد المدارس المطلوبة والأساتذة والمديرين والنظّار، لا على أساس التنفيع الشخصي والمادي بزيادة أسماء وهمية لتلامذة لا يجري التدقيق في مدى حضورهم إلى الصفوف. ومن التدابير التي اتخذتها الوزارة أخيراً أنها امتنعت عن التعاقد مع 700 موجّه تربوي في مدارس اللاجئين السوريين بعد الظهر، واشترطت أن يكون هناك ناظر واحد لكل 150 تلميذاً، وهو ما سيقلّص أعداد النظّار، باعتبار أن الوزارة كانت في السابق تعتمد ناظراً واحداً لكل 100 تلميذ، في حين أن النظام الداخلي للمدارس الرسمية ينص على المعيار الأول المتّبع في دوام قبل الظهر. كذلك طلبت الوزارة أن يكون التلميذ حاملاً لإقامة شرعية ووثائق ثبوتية.
المعضلة الأساسية أن وزارة التربية ربطت تمويل معظم مشاريعها التربوية بأزمة النزوح السوري منذ عام 2011 لدرجة أنها لم تعترض مثلاً على ما تفعله الجهات الدولية المانحة لجهة ترميم مدارس أكثر من مرة لمجرد أنها تضم تلامذة سوريين، في حين أن مدارس أخرى قد تتقاسم المباني نفسها التي لا يطاولها أي ترميم لأنه ليس لديها تلامذة سوريون.
كذلك اعتمدت الوزارة كلياً على الجهات المانحة لدفع رواتب الأساتذة الذين يدرسون في دوام بعد الظهر وتنصّلت من أي مسؤولية تجاههم، وهي اليوم، وفي ظل الظروف الاستثنائية قد تذهب للقول للآلاف: ليس لديكم عمل!