في ذروة الحديث عن ضرورة معالجة ملف النازحين السوريين، الذي فاق عددهم قدرة لبنان على استيعابهم من مختلف النواحي وتحديداً الاقتصادية منها، أتت موجة النزوح الجديدة لتُضاعِف الأزمة، وهذه المرة بشقيْها الاقتصادي والأمني مع تصدُّر الأخير المشهد بِقوَّة، بعد أن كثُر الحديث عن الخطر الأمني الآتي من باب النزوح، في ظل وضع بلد مُهدَّد بالفوضى كل يوم ومن مختلف الأبواب…
صحيح أن موجة النزوح السوري الأخيرة كانت لافتة بخطورتها من كل النواحي، إلا أن ذلك لا يُلغي أن خطر النزوح بدأ منذ عام ٢٠١١ ، بحسب مصادر متابعة للملف ، أي في اللحظة التي حاولت فيها بعض الجهات اللبنانية استثمار تَدفق الدفعات الأولى الى منطقة عرسال لاستخدام وجودهم بوجه النظام السوري والمقاومة، واعتبار احتضانهم عملاً إنسانياً يَستوجب التضحية والتسويق إعلامياً بأنهم فارّون مِن قمع النظام وليس مِن جرائم التكفيريين، وهذا ما أسّس للمِدماك الأول لإقامة المخيّمات التي احتمى فيها التكفيريون لتنفيذ عملياتهم الإرهابية ضد الجيش والقوى الأمنية واختطاف العسكريين وإرسال السيارات المفخخة، وهذا يعني أن الوفود السياسية التي زارت عرسال وعملت على وجود النازحين، كانت شريكة في منع المؤسسات الرسمية مِن الإقدام على تنظيم وجود هؤلاء على الأراضي اللبنانية. من هنا كانت البداية، وهذا يُعتبر الأمر الأول من سلسلة أمور أدت الى ما نحن عليه اليوم.
أما الأمر الثاني والذي كان لافتاً ، فهو نشوء جمعيات كثيرة مِن المجتمع المدني تُعنى بتقديم المساعدات أو تقسيمها أو المتاجرة بها في السنوات الأولى للأزمة السورية. والأمر الثالث هو حماسة المنظمات الدولية للتصدّي المباشر لعمليات الإحصاء والإدارة والرعاية، وتقديم المساعدات دون الرجوع الى المؤسسات الرسمية والوزارات المعنية.
هنا يجب الاعتراف أن أي معالجة لقضية النزوح في المستقبل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات الثلاث السابقة، على حد قول المصادر، لأنها تشير جميعها الى وجود جهات داخلية ودولية كانت وما زالت تَستخدم النازحين كأوراق ضغط سياسية وابتزاز، سواءً للنظام السوري أو للمقاومة في لبنان، وما يؤكد ذلك التصريحات العلنية للمسؤولين في الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية والخارجية الأميركية، التي اعتبرت عودة النازحين أمراً مرتبطاً بمصير النظام وليس بالحيثيات الإنسانية، فهي انتقلت من هدف إسقاط النظام الذي فشلت في تحقيقه إلى إضعافه.
أما المستجِد في هذا الملف، تضيف المصادر، هو الأعداد المتزايدة للنازحين والحديث المتزايد عن التغيير الديموغرافي الذي يَشهده لبنان في بعض محافظاته وأقضيته، حيث بلغت نسبة السوريين في بعض المناطق أكثر من ضعفيْ عدد السكان اللبنانيين.
وبمعزل عن الدوافع التي دعت السوريين الى الاستقرار في لبنان، فإن اشتراط الجهات المانحة تخصيص عدد من المدارس (٣٥٠ مدرسة) ل ٧٠٠٠٠ تلميذ سوري، وربط ذلك بالمساعدات التي تُقدِّمها لوزارة التربية، يَضع علامات استفهام كبرى حول نيات هذه الجهات تجاه مصير النازحين، خاصة أنها تتدخل في البرامج وعدد المدرِّسين وجنسياتهم، وتطلب تخصيص نسبة مِن المدرِّسين مِن حَمَلة الجنسية السورية وبالتالي تأمين فرص عمل لهم لتكريس بقائهم في لبنان.
والأمر الأشد خطورة هو ما كشفت عنه الأجهزة الأمنية في الفترة الأخيرة من أسلحة ومواد متفجِّرة في بعض المخيّمات التي داهمتها، كذلك اكتشاف عدد كبير من الشباب السوري القادم عن طريق التهريب والموجود داخل هذه المخيّمات، عدا تزايد نشاط عصابات التهريب على الحدود والسرقات وعمليات الخطف وترويج المخدرات، التي يشارك فيها النازحون السوريون.
السؤال هنا: هل نحن أمام مخاطر أمنية إضافة الى المخاطر الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية؟ تجيب المصادر إن كل ما تَقدَّم يَقودنا الى الحذر الشديد مِن نية أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية، لتنظيم وتشكيل مجموعات من النازحين السوريين في إطار ميليشيات مدرَّبة، لاستخدامها في عمليات أمنية قد تكون ذريعتها الأولى حماية مخيّمات النازحين من الاعتراضات المتزايدة على وجودهم، وهذا الأمر يمنع الكثير من الأحزاب والقيادات من الظهور بمَظهر المعارضة المباشرة لوجودهم، فالجهات الأمنية الخارجية التي قد تستخدمهم تنتظر أي موقف سلبي من بيئة المقاومة بالتحديد، لتقوم بتحريض المجموعات المسلحة وتصوير الأمر على أنه صراع بين المقاومة والنازحين السوريين. وهذا لا يُلغي مسؤولية حزب الله في الرصد والمتابعة في هكذا نوع من الاحتمالات بالتعاون مع الأجهزة الأمنية اللبنانية، لأن هذا الجزء مِن المَخاطر تشترك فيه المقاومة مع الدولة لحفظ أمن الجبهة الداخلية والحفاظ على السلم الأهلي ومنع الفتنة، لأن “الإسرائيلي” الذي يعاني مِن ضعف في جبهته الداخلية، يَعمل بشكل حثيث على إضعاف الجبهة الداخلية للمقاومة أو على الأقل إرباكها.
وهنا لا يُخفى على أحد أن نقطة الضعف في المواجهة تَكمن في الأداء الرسمي الضعيف الذي لا يَرقى لمستوى المشكلة، فحتى اللحظة لم يؤخذ القرار السياسي بالتصدّي لِما يُحاك للبنان عبر النازحين، والذي تتم ترجمته على الحدود السورية – اللبنانية، بحيث “للمفارقة” ان الجيش اللبناني لا يستطيع ضبط الحدود البرية بشكل كامل، ولكن يستطيع ضبط الحدود البحرية.
وبما أن القرار لم يؤخذ على المستوى الرسمي العام، تتم الإجراءات الميدانية على صعيد البلديات، والتي جرت بالتنسيق بين حزب الله والتيار الوطني الحر لإدارة وتنظيم الوجود والسكن والعمالة السورية، وتطبيق شروط وقيود محدَّدة لمنع الانتشار العشوائي للنازحين..
أمام هذا المشهد، مِن الطبيعي ألا تكفي كل الإجراءات المحلية إذا لم تتخذ الدولة اللبنانية قراراً سيادياً لمعالجة هذه المخاطر:
– أولاً: عبر التواصل المباشر مع الدولة السورية.
– ثانياً: ضبط عمل الجمعيات المدعومة من الخارج.
– ثالثاً: تقوم الدولة بفرض ضوابط على إدارة المؤسسات الدولية لشؤون النازحين كخطوة أولى، ريثما يصبح لديها قدرة على المواجهة.
– رابعاً: إبلاغ الجهات الدولية عن رفع مسؤولية الدولة عن ضبط الحدود البحرية ومطالبتها بتعويضات، ليس لبقاء النازحين وإنما تعويضات عن آثار النزوح المنظَّم من قِبلها على لبنان بكافة نواحيه وتحديداً الاقتصادية منه.
لكن كل ذلك يحتاج الى قرار لبناني رسمي في المواجهة، فهل يستطيع أي مسؤول في الدولة اتخاذه أم أن ضعف الإرادة لديهم سيَبقى مسيطراً على أدائهم كما جرت العادة؟ وهل هناك من خيارات أخرى أمام لبنان كالتي تَبرز عادة عندما تتخلى الدولة عن مسؤولياتها، وتُظهِر عجزها في كل مرة يَتهدّد لبنان خطراً وجودياً؟