حدثت الواقعة. التم الشبان في الساحات. انفجر الشارع بوجه الظُلم المتراكم كجبال النفايات. علت القبضات وصدحت الحناجر مطالبة بإسقاط النظام ورحيل وجوه الفساد. وحده العلم اللبناني رفرف في السماء. ما حدث شكّل مفاجأة للجميع، إذ كان اللبنانيون قد أوحوا للعالم بأنهم على مشارف الاستسلام أمام حجم الاستهتار السياسي بحياتهم وحقوقهم. لكن على الرغم من ذلك، فإن الشارع بعث الأمل في النفوس من جديد، واستعاد البعض من خلاله ذكريات جميلة عن ثورات بلدانهم التي أجهضت بالحديد والنار، لا سيما اللاجئين السوريين في لبنان، تلك الفئة التي تحتضن اليوم مشاعر متصارعة ومتضاربة تتراوح بين التصفيق لثورة بيروت والقلق حيال مستقبلها.
اختلطت المشاهد في ذاكرة اللاجئين السوريين. وجوه وأصوات كثيرة تداخلت. أعادت ثورة بيروت فتح كوة في الجرح النازف من ثورة دمشق. فبين لبنان وسوريا حكايات وجع تختصرها الثورتان من رأس النظام حتى أخمص قدميه. ووفق الناشط المدني حامد سفور إن “ما قبل الحراك في بيروت ليس كما بعده، فما حدث شكّل مفاجأة من دون شكّ، ولكنه ألزم العالم أجمع على الاعتراف بخصوصية هذا البلد وفرديته”، موضحاً أن “تركيبة لبنان السياسية والسوسيولوجية معقدة ودقيقة، وقد بلغ الانقسام الطائفي والسياسي الأفقي فيه حداً غير مسبوق في السنوات الأخيرة، وقد تجلى ذلك بوضوح في الانتخابات النيابية الأخيرة. وفجأة وقعت الثورة، وتخطى معها معظم اللبنانيين بسحر ساحر كل هذه الثغرات والحواجز واجتمعوا حول همومهم المعيشية. وأنا لا أبالغ إن قلت إنني في بداية الحراك لم أستوعب ما يحدث”.
ويُضيف: “إن التمادي في استبعاد الناس عن الرؤية السياسية للدولة والتعاطي باستهتار فجّ مع قضايا البلد وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية، وما يُرافقها من عدم الاكتراث لردات فعل الناس، وصل إلى حدود غير مسبوقة ولا شكّ أنه ساهم أيضاً في كسر حواجز الخوف لدى اللبنانيين”.
يعيش سفور في لبنان منذ 9 سنوات. عاين المجتمع اللبناني عن كثب بسبب انخراطه في المجتمع المدني وارتباط عمله بقضايا حقوق الإنسان. لم يُشارك في الثورة، ومنع العديد من أصدقائه من المشاركة أيضاً معتبراً أن “أي كلمة ستُحسب علينا الآن، وربما تُستغل مشاركتنا ضد الحراك ويستثمرها البعض لإفشاله خصوصاً أن “صوفتنا حمرا” لدى كثيرين”. هو الذي كان أحد أبرز الوجوه في الثورة السورية لعب دور المراقب في بيروت. تأمل الثوار وردد هتافاتهم بصمت. “كل ما حدث في بيروت والمناطق الأخرى أعادني بالذاكرة إلى دمشق وحلب. تذكرت نضالنا وأصواتنا التي ملأ صداها الدنيا. ليس في وسعنا إلا أن نتمنى لهذا البلد ما يستحق والتعبير عن ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، وهذا أقل ما يُمكن من باب رد الجميل”.
ويضيف: “من نافل القول إن أي حدث في لبنان سينعكس حكماً على اللاجئين السوريين. فرض الأمن مثلاً سيساعدنا على الشعور بالأمان، ازدهار الوضع الاقتصادي وتطوير البنى التحتية ونبذ الخطاب العنصري والمعادي لنا وغيرها من الأمور، من شأنها تحسين أوضاعنا أيضاً. والعكس صحيح فإن أي ضرر يلحق بالبلد سيلحق بنا”.
في حواره مع رفاقه وأصدقائه اللبنانيين لا يتوانى سفور عن تقديم خبراته ودعمه. يقول: “أهم وأول درس تعلمناه من الثورة السورية هو ضرورة نبذ الطائفية، لأن أعمق خرق للثورات يتم عبر صعود الخطابات التمييزية الطائفية والعرقية. أما ثانياً فهو الالتزام بخيار سلمية التظاهرات وعدم الانجرار خلف العنف والتورط فيه. أي حراك عنفي وموجه من الخارج ممكن أن يؤدي بالثوار إلى مكان آخر لا تُحمد عقباه. أما ثالثاً فهو عدم الخوف. عدم السماح للأرق من المجهول وانسداد الأفق أمام الحلول السياسية أن تتملك نفوس الثائرين. القلق يدفعنا نحو الانهزام”، مشدداً على أن “من ينظر إلى ثورة لبنان بعين مجردة لا يُمكن إلا أن يُثني على الأداء المعتمد حيال الناس، أولاً من قبل القوى الأمنية التي لم تُفرط في استخدام العنف، وثانياً من قبل السلطة السياسية التي رضخت للشارع عبر إعلان رئيس الحكومة استقالته. هذا نفس ديمقراطي يُمكن البناء عليه”.
لا يخاف سفور من احتمال اللعب بورقة اللاجئين مجدداً. بالنسبة إليه “الملف السوري ملف حساس وبالرغم من وجود تصريحات عنصرية تجاهنا إلا أنه توجد في الضفة الأخرى خطابات واقعية، فمما لا شكّ فيه أن لبنان يُعاني من عبء كبير جراء أزمة النزوح السوري، لكن في حال تم الاتجاه نحو اعتماد حكومة تكنوقراط لا بد من أن يتم التعاطي مع هذا الملف بطريقة مختلفة”.
مثل سائر في الظلمة يلوح قبالته نور خافت من بعيد. هكذا هو حال اللبنانيين وفق الناشطة السورية لينا غوتوق. التي تكشف في حديث مع “نداء الوطن” أننا “كسوريين خضنا هذه التجربة في بلدنا ونستطيع أن نشعر ما يشعر به أي لبناني عندما يكون مصير بلاده معلقاً في الهواء. بالنسبة لي إن الشعوب العربية مرتبطة ببعضها البعض كارتباط أنظمتها. فالأخيرة تتشابه في العنف والقمع والاستبداد. كلها نشأت على أسس طائفية تستمد منها قوتها للبقاء أطول فترة ممكنة. أما الشعوب فتتشابه في المعاناة والأزمات”، مشيرة إلى أن “اللافت في المشهد اللبناني تمثل في قدرة هذا الشعب على تخطي كل الفروقات من دون أي تحضير أو تنسيق مسبق”. وتوضح أن “الثورات في البلدان العربية لن تنجح سوى في وضع رؤية وطنية بعيدة عن الصراعات الإقليمية وتطوير فكر وطني متحرر من أي عصب طائفي وارتهان خارجي، ولا شكّ أن الشباب العربي قادر على تحقيق ذلك”.
شاركت منال في تظاهرات لبنان عقب وفاة العاملين السوريين في إحدى الشقق في محلّة رياض الصلح. وترد ذلك إلى المصير المشترك، قائلةً: “في هذه اللحظة شعرت بأن مصيرنا واحد. أينما ذهبنا كعرب، جميعنا لبنانيون أو سوريون أو يمنيون أو عراقيون، ستلاحقنا المعاناة. نحتاج إلى تغيير جذري وإلى التخلص من الخوف الذي يتملكنا تجاه بعضنا البعض وتجاه الآخر المختلف عنا”. لم تخف من استهدافها بخطاب متطرف لأنها سورية. تصر على أن “العصبيات لا تجد مكاناً في الثورات المطلبية، حيث يتحد الناس حول شعارات واضحة ومشتركة”.
ترى غوتوق أن “تجربة لبنان إن نجحت ستكون إشارة إيجابية لكل الدول العربية، ودليلاً واضحاً على قدرتنا على التغيير. فكل الدول حول العالم تترقب نتائج هذه الثورة وكيف ستنتهي”.