Site icon IMLebanon

مكافأة القاتل على القتل

 

« النذل وقت حكم صبح الأمان بقشيش
والغدر وقت الحكم يقدر ولا يعفيش
والحرّ مهما انحكم للغدر ما يوطيش»
أحمد فؤاد نجم

كانت جدتي تقول، كلما ذُكر إسم أحد «البلطجية» المعروفين، «السفيه اكتفيه». يعني أن تتعامل معه على أساس أنّه قادر على الإذية أو التخريب، لذلك فعلى الجميع أخذه في الحسبان اتقاءً لشرّه.

في التعريف النفسي لشخصية «البسيكوبات»، فهي شخصية فاقدة للقدرة على التعاطف مع الآخرين، مع فقدان الشعور بالندم لخرقها القواعد الإنسانية العامة، بالإضافة إلى قدرة فائقة على التلاعب بالآخرين واعتبارهم أدوات في سبيل تحقيق الرغبات.

لا يشعر «البسيكوبات» بأي شعور بالذنب أو الندم على أي أذى يتسبب به، على العكس، فهو يبرّر كل ما يفعله مهما كانت خطورته، ويلقي مسؤوليته على الضحية.

ومن الصفات الأخرى الملازمة فهو الكذب المرضي والخداع والإخلاف بالعهود، مزينة بسحر هامشي وقدرٍ واضح من الذكاء. لكن في الإجمال، فهو من النوع المفترس من البشر، وقد يصرّح بأنّه يتمتع بصفات إلهية تسمح له بالتصرّف بالبشر الآخرين، كأدوات، مما يعطيه حرية التصرّف بنزق مفرط دون الخوف من العواقب، فلا يتورع عن القيام بأعظم الجرائم في سبيل تغطية جرائم سابقة.

أحد المبعوثين الأوروبيين قال في عزّ أيام الاغتيالات للنواب المحتمين في فندق فينيسيا، بأنّ لسورية مصالح يجب مراعاتها في لبنان، لذلك فإنّه على قوى ١٤ آذار أن تتعامل مع هذه الحقائق بواقعية. عندما تفاقم الجدل قال المبعوث الأوروبي: «بصراحة يجب مراعاة مصالح سورية لأنّها قادرة على التخريب من خلال الإرهاب، ومن خلال المعارضة السياسية للأطراف المرتبطة بها، ومن خلال التحالف مع «حزب الله»، أما أنتم فلا قدرة ولا رغبة عندكم في المواجهة بالمثل».

فهم نظام الأسد بأنّ قدراته على تغيير المعادلة السياسية والعسكرية من خلال التنافس الطبيعي الاقتصادي والعسكري غير متوفرة له. فهذا النظام، وبسبب طبيعته البنيوية، غير قادر على الذهاب إلى عملية إنماء شفافة، مع المحافظة بالوقت ذاته، على استمرار النظام في الحكم. لجأ هذا النظام إلى مزيج من الفساد والعسف الأمني لتأمين استمراريته.

هذا ما منع عملية إنتاج النخب السياسية والاقتصادية والعلمية القادرة على قيادة حراك التغيير في سوريا، وأصبح المهجر الملجأ الوحيد لهذه النخب، فارتاحوا وأراحوا النظام من ثقل وجودهم. كما أنّه منع إمكانية إنماء اقتصادي مع ما يستتبعه من تغيير في كل الميادين الأخرى. إحتاج النظام السوري إلى قدَر هائل من الوحشية لتطويع الداخل السوري من خلال حملات القتل والاعتقال والاضطهاد، والذي أدّى إلى حالة من «فقدان الشعور الجماعي» لدى الشعب السوري، نتيجة لعملية التيئيس المبرمجة، حتى صار هذا الشعب يخاف من أي تغيير لئلا يكون أكثر ظلمًا من واقع الحال على طريقة «النحس الذي تعرفه».

لكن، ورغم ذلك، فقد بدأت الثورة في سوريا بتفاعل مع الثورات التي انطلقت في عدد من الدول السلطوية العربية. كانت الثورة غاية في البراءة والطوباوية في بداياتها، وهذا ما أحرج النظام وأعطى مجالًا لتمادي المتظاهرين في مزيج بين الثورة والاحتفال والفرح. هنا أدرك النظام أنّ الخطر صار داهمًا، فالفرح يعطي نشوة وأملًا، وهو عكس ما بناه النظام لترويض الناس. ستة أشهر كانت كافية لتحويل العرس إلى مأتم كبير، من خلال تحويل الثورة الديموقراطية إلى حرب أهلية مقصودة من قِبل النظام. زاد النظام باستفزازات الناس بشكل عنيف وقاتل، مستدرجًا الثورة إلى ترددات فعل عنيفة. ثم أطلق أكثر الناس تطرّفًا من السجون ليتمكن من تحويل الثورة إلى عصيان مسلح من قِبل التطرف الإسلامي، وبالتالي القول بأنّه، كما كان في أيام الصراع مع الاخوان المسلمين، متراسًا للعالم في وجه التطرّف.

فإذا كان قتل مدني في تظاهرة جريمة موصوفة، فإنّ تدمير بناء على سكانه لاحتمال وجود مقاتل بذقن طويلة متهم بالتطرّف الإسلامي، يصبح مسألة فيها نظر. من هنا، فقد شجّع العالم نظام الأسد على المزيد من العنف والموت والدمار، لعلمه بأنّه بذلك سيصمد إلى أن ييأس العالم منه وينساه، ومن ثم تأتي أحداث أشدّ خطورة، أو زلزال مثلًا، ليأتي من يفتح الباب على عزلة نظام أثبت قدرته على الصمود، من خلال المزيد من القتل.

على الرغم من كل التهم والتوصيفات التي جعلت من نظام الأسد مثالًا للقاتل التسلسل «البسيكوبات»، يبدو أنّ مساره تكلّل بنجاح منقطع النظير، بدليل استمراره في الوجود، وعودته اليوم إلى المسرح الدولي، ممسكًا بأوراق جديدة. فإذا كان النظام العالمي يستعمل عادة مبدأ العصا والجزرة، فإنّ النظام السوري اقتصرت سياسته على عصى الإرهاب في التعامل مع العالم، مستمدًا قوته من القدرة الفائقة على التخريب والقتل والتلاعب على التوازنات. وها هو العالم يعيد اليوم التأكيد لنظام الأسد على نجاعة سياسة التخريب المزمن التي اتبعها بالوراثة عن والده، ليعطي رسالةً شديدة السلبية للضحايا السوريين وغيرهم، بأنّ الجرائم الكبرى سوف تجد دائمًا من يساوم عليها، مهما بالغ هذا العالم بالحديث عن العدالة وعدم الفرار من العقاب.

إنّ هذا الأسلوب الذي يعتمده العالم في مكافأة المجرم لمجرد قدرته على التمادي في إجرامه، قد يكون من أكثر الرسائل سلبية للضحايا والمجرمين على حدّ سواء، فهو يشكّل دعوة مفتوحة للأنظمة الإجرامية لممارسة هواياتها دون خوف من العقاب، وتقول للضحية أن ترضى بالذل والهوان وأخذ العِبر. العبرة هنا هي أنّه كلما تمادى «البسيكوبات» بالقتل، كلما ازدادت حظوظه بالإفلات من العقاب.