تتركّز الأنظار على المسرح السوري الذي يشكل نقطة تحول استراتيجية في حال خروج الأوضاع داخله من تحت السيطرة، ويُلاحظ ارتفاع منسوب التشدُّد الأممي مع لبنان في الوقت الذي تنضُب فيه إمكانات الدولة بغية دفع مستحقاتها.
لم يلتقط النظام السوري فرصة دعوته إلى القمة العربية في جدة من أجل فتح صفحة جديدة مع المملكة العربية السعودية تسمح له باستعادة أنفاسه المالية وتوازنه السياسي، بل تعامل مع هذه الدعوة باعتبارها حاجة سعودية للانفتاح عليه وكأنه حجر الزاوية في الشرق الأوسط والسباق على من يحوز بثقته، فأخطأ التقدير وبدّد فرصة ثمينة وذهبية، خصوصاً أن لا روسيا ولا إيران باستطاعتهما مساعدته مالياً تجنّباً لفوضى محسومة بسبب الحصار والفساد وضيق نفس الناس، وهذا عدا عن انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا، وانشغال طهران بأوضاعها الداخلية.
وتختلف الحرب العسكرية عن الحرب الاقتصادية، فبإمكان موسكو وطهران مؤازرة النظام السوري عسكرياً في مواجهة انتفاضة ضده، وهذا ما حصل مع اندلاع الثورة السورية، ولكن ليس بقدرتهما مساعدته مالياً بما يفسح في المجال أمامه في تبريد غضب الناس الجائعة، وما لم يتلق جرعة دعم مالية فإنّ مصيره سيكون على المحك ويتراوح بين الفوضى الشاملة التي تعرِّضه للسقوط، وبين التفكُّك ونشوء مناطق ودويلات منفصلة عن بعضها البعض، وهذا ما يُخرج الوضع السوري من ستاتيكو اللا حرب واللا سلم إلى فوضى تُفقد طهران إحدى أوراق قوتها الأساسية التي تشكل القاعدة المحورية لجسرها الممتد من طهران إلى حارة حريك.
وبالتوازي مع حالة الانهيار المتمادية في سوريا وعجز النظام عن مواجهتها، يلاحظ عودة الاهتمام الأميركي بالمسرح السوري وتزايد الحديث عن توجه لإقفال الحدود بين سوريا والعراق او ضبطها بشكل مُحكم، واي خطوة من هذا القبيل تعني اشتعال الحرب الأميركية-الإيرانية لأنّ طهران لن تقبل بمحاصرتها واستطراداً محاصرة النظام السوري و»حزب الله» من خلال إقفال طريق إمدادهما بالسلاح والميليشيات، وبمعزل عن دقة ما يحكى، إلا ان الأكيد بأنّ المسرح السوري مفتوح على حراك وتطورات وتبدلات.
واي تبدُّل في المعطى السوري ستكون له ترددات في أكثر من اتجاه وتحديدا في لبنان، لأن اي تغيير داخلي بحاجة إلى تبدُّل في موازين القوى إما الداخلية أو الخارجية، وهذا عدا عن عودة التشدُّد الأميركي في التعامل مع الممانعة في لبنان، بدءا من بيان اللجنة الخماسية في الدوحة الذي أعاد التأكيد على القرارات الدولية ووضع مواصفات رئاسية لا تتناسب مع الممانعة، وصولا إلى التجديد لليونيفيل ورفض تقييد حركتها وخروج الممانعة بخسارة موصوفة من المواجهة الديبلوماسية، وما بينهما «الجولات السياحية» لمستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة عاموس هوكشتاين من الروشة إلى بعلبك في رسائل معبرة، وليس انتهاءً بتحميل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإيران مسؤولية الشغور الرئاسي بعد ان كانت باريس قد دعمت مبادرة تُفضي إلى تقديم رئاسة الجمهورية للممانعة على طبق من فضة، وهذا ما استدعى رداً غير ديبلوماسي من وزير الخارجية الإيراني من بيروت داعياً ماكرون إلى الاهتمام بمشاكل بلاده.
والتبدُّل في المشهد لا يقف عند حدود التطورات السورية، ولا عند عودة التشدُّد الأممي مع الممانعة في لبنان، إنما يتعداهما إلى وضعٍ مالي يقطع الطريق على ما تعتبره الممانعة من نقاط قوتها وهو النفس الطويل، إذ لم يعد باستطاعة الدولة شراء الوقت، فبعد أشهر قليلة ستكون أمام واقع عدم قدرتها على دفع مستحقاتها، ما يعني دخول لبنان في الفوضى، وتجنباً لهذه الفوضى سيضطر «حزب الله» إلى التراجع وملاقاة خصومه في منتصف الطريق لانتخاب رئيس يعكس ميزان القوى النيابي والوطني وليس رئيساً بقوة التعطيل والشغور.
وفي هذا الزمن أصبحت الحروب العسكرية هي الاستثناء على غرار ما يحصل بين روسيا وأوكرانيا، فيما القاعدة هي في الحرب الاقتصادية التي ستضطر معها الدول الخارجة عن الشرعية الدولية والنظام العالمي وتقوم بالأدوار المزعزعة للاستقرار بأن تتراجع عن هذه الأدوار وتتخلى عنها، إذ ليس منطقياً ان يساعد المجتمع الدولي هذه الدول والتي ستكون أمام خيارين إمّا انفجارها من الداخل وإما التزامها بسقف الشرعية الدولية.
ومن الثابت ان الدول الممسوكة من الممانعة عاجزة عن اجتراح سياسات مالية واقتصادية تقود إلى استقرار مالي ومجتمعي، والسبب انّ الممانعة لا تفقه قيادة الدول ليس فقط لأن أولويتها الحرب، بل لأنّ قيادة الدول تتطلّب خبرة ورجال دولة والتقيُّد بقوانين وشفافية ومعايير دولية، وليس مصادفة انّ الدول التي تسيطر عليها الممانعة أوضاعها مأساوية وكارثية، وليس مصادفة ايضاً ان الفساد أبرز عوامل انهيارها، وبالتالي ستصطدم الممانعة عاجلا أم آجلا بالحائط المسدود.
واستخدام ورقة الضغط المالية هو حقّ ومشروع وبديهي وضروري، لأن من يخرج عن الشرعية الدولية يجب ان يتحمل تبعات خروجه إما بقرارات دولية تعيده بالقوة إلى هذه الشرعية، وإما بوقف اي مساعدة له، من الواضح ان المجتمع الدولي لم يعد يستسيغ استخدام القوة، إنما يلجأ إلى الضغط المالي الذي يستغرق وقتاً أكثر بطبيعة الحال، ولكن في المحصلة سيؤدي النتيجة نفسها.
والقول ان الفوضى في لبنان ستكون على الجميع وانعكاسها لن يكون على الممانعة حصراً، صحيح، ولكن الفوضى تعني خسارة الورقة الاستراتيجية التي تمسكها الممانعة منذ العام 1990، اي منذ الانقلاب على اتفاق الطائف، وبالتالي عودة لبنان إلى مربّعات منفصلة، وهذا ما تعتبره الممانعة إطباقاً على مشروعها، الأمر الذي سيدفعها إلى التراجع رئاسيا تجنباً لتراجعها جغرافيا واستراتيجيا.
ويبدو ان الرئاسة الأميركية تبحث عن انجاز قبل انتخاباتها الرئاسية، ولن تجد هذا الانجاز لا مع الصين ولا مع إيران، إنما في سوريا ولبنان وفي مزيد من التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وما تشهده السياسة الأميركية من تشدُّد وتركيز على هذه البقعة من العالم سيتواصل في المدى المنظور، ما يعني ان لبنان مُقبل على تطورات سياسية تتطلّب ملاقاتها من القوى السياسية السيادية سعياً إلى ترجمتها باستعادة الانتظام والاستقرار.
وتدلّ أحداث المنطقة ولبنان على انّ الممانعة دخلت في هذه المرحلة في حقبة الجزر وردّ الفعل، ومن حسن حظّ اللبنانيين ان الجسم المعارض موحّد ورافض اي تنازل يؤدي إلى ضرب المومنتم الحالي، والتغيير على مستوى الدولة يبدأ من رئاسة الجمهورية التي تشكل حجر الزاوية في قطع الطريق على سيطرة الممانعة على مؤسسات الدولة وتمديد الواقع المزري لسنوات مديدة.
وحيال ما تقدّم فإنّ الممانعة ستكون مضطرة إلى التراجع رئاسياً في الأشهر القليلة المقبلة، ومبادرة الرئيس نبيه بري التي سلّم فيها بالجلسات المتتالية ما هي إلا بداية لسلسلة تراجعات أمام رياح خارجية ومالية معاكسة لتوجهات الممانعة.
ولا شكّ ان التقاطع بين مثلّث صمود المعارضة والتشدُّد الخارجي والانهيار المالي الذي يُدخل لبنان في مرحلة الفوضى سيولِّد رئاسة جمهورية في الأشهر القليلة المقبلة.