أكتب هذه السطور بينما أخبار تقدّم الفصائل الأصوليّة وتراجع قوّات بشّار الأسد تتوالى في سوريا. لن آسف للضربة القويّة التي تلقّاها نظام الأسد بحلب، لا سيّما أنّ تراجعه بسوريا يصبّ ضدّ مصلحة “حزب الله” بلبنان. يبقى أنّ الفرح بأحداث حلب مستحيل لأنّ ما بقي من مسيحيّيها هناك باتوا اليوم بين مخالب الجهاديّين. على المستوى الشعوري، وأيضا الأخلاقي، لن أبتهج بينما تقبع جماعة مسيحيّة مشرقيّة تحت حكم خرّيجي داعش والقاعدة والنصرة، دع عنك محاولات تلميع الصورة التي ينشغل بها هؤلاء منذ أيّام. من هنا عنوان هذا المقال لجهة كون الخيار بين نظام بشّار الأسد، وفصائل محمّد الجولاني، مستحيلاً.
ليست المرّة الأولى التي أرى نفسي منحازاً ذهنيّاً ضدّ طرفي صراع بالمنطقة. شاءت صدف الدراسة الجامعيّة أنّني كنت بالقاهرة عام 2012 بعد أوّل انتخابات رئاسيّة جرت هناك عقب سقوط حسني مبارك من سدّة الرئاسة. آنذاك انحصرت خيارات الدورة الثانية بين الجنرال أحمد شفيق، مرشّح الفلول، بقايا نظام مبارك، ومحمّد مرسي، مرشّح الأخوان المسلمين. آخر ما كنت أريده لمصر هو أن يعود الفلول الفاسدون لحكمها؛ كنت رأيت ما يكفي من الفقر بإمبابة، وبأحياء معدمة أخرى بالقاهرة، كي أكره الطغمة الحاكمة المصريّة ليوم القيامة، لا سيّما جنرالات الجيش والشرطة، العمود الفقري للنظام. ولكنّني أيضاً لم أكن أريد للأقباط أن يعيشوا بمصر تحت حكم الأخوان، للسبب نفسه الذي يجعلني اليوم أرفض أن يعيش مسيحيّو سوريا تحت حكم الجهاديّين: الإسلام السياسي نظام فصل عنصري ديني، تماماً كما كانت العنصريّة البيضاء بولايات الجنوب الأميركي نظام فصل عنصري عرقي. لذلك كنت ضدّ أحمد شفيق ومحمّد مرسي معاً، تماماً كما أنا اليوم ضدّ بشّار الأسد ومحمدّ الجولاني؛ كان الخيار بالقاهرة أمس، كما هو في حلب اليوم، مستحيلاً.
بعدها بسنة، في العام 2013، قبض الجيش المصري على السلطة بانقلاب عسكري أطاح برئاسة محمّد مرسي، وارتكبت قوّات الأمن المصريّة مجزرة مروّعة بساحة رابعة العدويّة قتلت فيها ما يقارب الألف مدني مصري من مؤيّدي الاخوان، اجتمعوا بالساحة للاعتراض على الانقلاب. أيّ خيار كان ممكناً آنذاك؟ الأخوان الأصوليّون… أم العسكر القتلة؟
ومنذ سقط الحكم الهاشمي بالعراق عام 1958، انحصرت الخيارات الأساسيّة فيه بين الحزب الشيوعي، حزب البعث وملالي الشيعة الأصوليّين. استعان عبد الكريم قاسم بالشيوعيّين لتثبيت حكمه، فأوغلوا بدم القوميّين العرب بالموصل عام 1959. ثمّ سقط حكم قاسم، فأوغل القوميّون العرب بدم الشيوعيّين، والأكراد، والشيعة. بعدها بعقود، سقط نظام صدّام حسين عام 2003، فتعرّض المكوّن السنّي إلى ما تعرّض له على يد الحشد الشعبي المدعوم من إيران. لمن ينبغي للمرء أن ينحاز بالعراق: نظام صدّام حسين ونسيبه علي الكيماوي… أم الميليشيات الشيعيّة وأسيادها بطهران؟
كلّها خيارات مستحيلة، وجذر السبب واضح: قيم الحداثة الليبراليّة فشلت بهذه المنطقة، لأسباب معقّدة، يشتبك فيها المعطى الديني-الثقافي، بالمعطى البنيوي-الاقتصادي، بالجيوبوليتيك ولعبة الأمم. التيّارات الأساسيّة التي فرزتها المنطقة تتنوّع عقيديّاً بين القوميّين العرب، والقوميّين السوريّين، والاسلاميّين، والشيوعيّين، ولكنّها، على اختلافها، تنطلق كلّها من جذر أنتي-ليبرالي صريح، وممارسة ذئبيّة للسياسة يفتك فيها القوي بالضعيف. هذا سيّئ بما يكفي طبعاً، ولكن هناك ما هو أسوأ، عنيت غياب الضوء بنهاية النفق. موعدنا مع الليبراليّة مؤجّل حتّى إشعار آخر.