IMLebanon

مشاهدات من “الريفييرا السورية”

 

طرطوس واللاذقية في انتظار النهضة الآتية

 

 

الريفييرا السورية… اسم يدغدغ الخيال ويرسم في البال صوراً رائعة لريفييرا أخرى ترتاح في أحضان البحر، تعجّ بالإثارة والحركة وتزدحم بالسيّاح المشدوهين وبالمشاهير والأغنياء والباحثين عن الشهرة والملذات لينفقوا أموالهم في أرقى منتجعاتها وكازينواتها… الريفييرا السورية، كما يصفها الإعلان الذي يهدف إلى جذب الزوار اللبنانيين نحو هذه المنطقة القريبة والآمنة من سوريا، تثير الفضول وتحمل دعوة إلى زيارتها في رحلة منظمة والتعرف إلى الوجه الآخر لسوريا… الوجه الأجمل.

صورة الريفييرا المرسومة في البال تبدأ بالبهتان سريعاً حتى قبل الوصول الى الحدود السورية، بدءاً من المنية وبعدها عكار الساحلية التي تختصر حالها يافطة حديدية كبيرة دُوّن عليها بخط اليد «عكار بدا الدولة بس الدولة ما بدا عكار» في توصيف دقيق لما تعيشه هذه المنطقة من أوضاع سيئة تتجلّى بوضوح في الطريق الساحلي الدولي الذي يربط لبنان بسوريا والذي يحاول بما تيسّر أن يؤدي دوره كشريان اقتصادي حيوي في المنطقة. ينسحب الوضع ذاته على طول الطريق المؤدي الى مركز العريضة الحدودي حيث خط من الشاحنات التي تنتظر ليلاً أمام مركز الجمارك وتوحي بأن ثمة حركة تبادل تجاري ناشط بين البلدين.

 

حدود متعبة

 

مركز الأمن العام اللبناني يبدو متعباً مترهّلاً، في باحاته يستريح كلب يتنقّل بين القادمين يهزّ ذيله فرحاً بـ»عجقة» ناس لم تعد الحدود المنسية تشهد مثلها كثيراً. في المبنى عنصر واحد لا غير ينجز معاملات المغادرين ويستأذنهم للإنتقال الى الجهة المقابلة من المكتب لإنجاز معاملة القادمين. «موظف بطل» يقول المسؤول عن الرحلة كتحية تقدير لعنصر له «مَونة» على اللبنانيين و»وهرة» على السوريين القادمين، يطلب من الكل الانتظار ريثما ينهي إنجاز المعاملات…

 

على الجانب السوري الذي لا يبعد أكثر من أمتار قليلة عن مركز الحدود اللبناني يتغير المشهد وإن كان جغرافياً امتداداً طبيعياً له. هنا الحركة أنشط ومركز الأمن العام والجمارك يعجّ بالعناصر. يصعب التمييز بينهم، كلٌ يرتدي بزّة بـ»ترقيطة» مختلفة ولا زيّ موحّداً يجمعهم. بعد ختم بطاقات الدخول بشكل سريع من قبل الأمن العام السوري يصل الباص الى نقطة التفتيش التي يجلس عند طرفها عناصر متحلقون حول طاولة لشرب المتة. التفتيش حالياً لم يعد عملية روتينية عابرة فالدولتان المتجاورتان تسعيان على ما يبدو لمكافحة التهريب بكل أشكاله. يُطلب من سائق الباص إطفاء المحرك ومعه التبريد وفتح باب الحقائب في أسفل الباص. أكثر من عنصر ينزلون الحقائب المختارة الى الأرض ويفتحونها ويفتشون في محتوياتها الحميمة (كون معظمها حقائب نسائية). أحدهم يطلب فتح إحدى الحقائب المقفلة فتسارع صاحبتها محرجة الى فتحها. تطول الوقفة ويُسمع جدل قوي بين العناصر وسائق سيارة متوقفة أمام الباص يتم تفتيشها بدقة. وهنا المفاجأة: السيارة ليست بريئة بل تحمل في صندوقها ممنوعات: عدة علب كاميرات تصوير جديدة وبضعة كروزات من الدخان… إنه التهريب يتجلّى بصورته البشعة المدمرة للاقتصاد… يتنحّى صاحب السيارة جانباً مع العنصر ويدخلان الى غرفة جانبية خافتة الضوء للتفاوض. في هذه الأثناء يسعى سائق الباص لتسريع الأمور مع عناصر الجمرك على طريقته…

 

تفرج الأمور ويسمح للباص بإكمال رحلته. نتأفّف من الحر والمماطلة التي حصلت لكن منظم الرحلة يعلمنا أن التشديد كبير هذه الأيام على السيارات والباصات الآتية من لبنان، فبعدما كان التهريب يتم من سوريا الى لبنان سابقاً اتخذ حالياً طريقاً معاكساً وصارت البضائع تهرّب من لبنان الى سوريا. أية بضائع هذه؟ الهواتف النقالة والشواحن، الأدوات الكهربائية الصغيرة الحجم، الدخان وحتى الفياغرا. بعض العابرين باتوا يستغلون الرحلات السياحية من لبنان الى سوريا لتهريب بضائع ولا سيما تلك الرحلات الزهيدة الكلفة التي تشكل أفضل غطاء لنشاط غير مشروع. وتتم تخبئة البضائع المهرّبة في حقائب بعض أفراد المجموعة أو بين الحقائب وأحياناً في الإطارات كما حصل في مرة سابقة.

 

لا تنتهي المظاهر الأمنية بعد عبور المركز الحدودي ففي داخل الخط السوري الساحلي تكثر الحواجز الأمنية وتتوالى وكل منها يقوم بدوره بالتأكد من الأوراق والحمولة إذا ارتأى ذلك وقد يصعب الأمر على السائق إذا لم ينل «المعلوم». المنظر يختلف عن اكتظاظ آخر البلدات اللبنانية الساحلية. سهول شاسعة لجهة اليمين وبيوت متفرقة لجهة البحر لكنّ المفاجئ وسط هذا الفراغ نشوء مجمّعات سكنية لم ينته بناؤها بعد. معظمها على العضم، هل توقف البناء نتيجة الحرب والأزمة الاقتصادية؟ أم أنها مبانٍ حديثة قيد الإنشاء؟ علماً أن المنطقة الساحلية لم تشهد معارك ولم تتأثر مباشرة بالحرب. كبير عدد هذه المجمّعات وغريب وجودها هنا ولكن حسبما قيل لنا إن الساحل يشهد نهضة عمرانية لكن لم تتضح لنا معالمها بعد.

 

بعد هذه المنطقة القليلة البشر والحجر والنبات تعود المناظر لتصبح شبيهة جداً بشمال لبنان بتلالها وغطائها النباتي الأخضر الكثيف وصولاً الى طرطوس التي تذكّر بطرابلس أو صيدا. بارجتان حربيتان في البحر تعيداننا بسرعة الى الواقع: هذه سوريا والبوارج روسية. قرب الشاطئ تظهر جزيرة أرواد وهي الجزيرة الوحيدة المأهولة في سوريا مكتظة بالبيوت الفقيرة والسكان وفيها ترتفع قلعة تاريخية من أيام الرومان كانت سابقاً تجتذب إليها عدداً كبيراً من الزوار يقصدونها عبر المراكب الصغيرة من طرطوس لكنها اليوم تشهد إهمالاً وغياباً شبه كامل للزوّار حسبما روى لنا أحدهم وهو يتحسّر على حال الشوارع المحيطة بها وتراكم الأوساخ عند مداخلها.

 

طرطوس هادئة والمجمّعات السكنية الجديدة على أطرافها كثيرة ومفاجئة وصور الرئيس بشار الحاضر الأكبر في الشوارع. أما وسط المدينة فيعكس الهدوء والأمن اللذين تعيشهما هذه المناطق التي لم تعان لحسن الحظ مثل سواها من المناطق السورية. من طرطوس يكمل الأوتوستراد الدولي الذي يعبر من تركيا نحو دمشق فالأردن طريقه، منظماً واسعاً وغير مكتظ ومنه تتفرّع صعوداً مصايف سورية غنيّة بالأشجار والمياه مثل القرداحة وصافيتا ومشتى الحلو وغيرها.

 

اللاذقية تحمي أهلها ومرفأها

 

نصل الى اللاذقية وعلى أطرافها نجول على عدد من الكنائس ومنها دير بلمانا الأرثوذكسي الحديث البناء الذي بنته راهبتان نذرتا نفسيهما للصلاة والتعبد ونتعرف الى مزار الجوزية حيث ظهرت السيدة العذراء على صبية سورية تماماً كما في مغارة لورد الفرنسية وتفجر نبع مياه من تلك الأرض الجرداء. في داخل المدينة نزور كنيسة قلب يسوع التي يهتمّ برعايتها الآباء الكبوشيون. من الأب فادي راعي الكنيسة نعرف أن اللاذقية كانت تضم 250 عائلة مسيحية لكن بفعل الحرب السورية استقبلت مئات العائلات المسيحية التي تهجّرت من محافظات إدلب ودير الزور، أرثوذكس وكاثوليك وكلدان وأرمن وجدوا في المدينة ملاذاً آمناً وفي الكنيسة حضناً. بعض القرى في إدلب مثل الغسانية كان أهلها يملكون بيوتاً صيفية في اللاذقية فهربوا إليها فيما قرى أخرى وصل أهلها دون مأوى فساعدتهم الكنيسة حتى استقروا ووصل عدد العائلات المسيحية اليوم في اللاذقية الى 750 عائلة من كل الطوائف المسيحية. لكن الكنائس الأقدم في اللاذقية هي كنائس أرثوذكسية ومنها كنيسة مكرّسة للعذراء تعود الى القرن الثالث الميلادي وتضم واحدة من أقدم الأيقونات التي تجمع الأسلوبين الروسي واليوناني.

 

أسواق اللاذقية جعلتنا نأسف على عاصمة لنا إختفت أسواقها وامّحى تراثها. أما حركة مرفأ اللاذقية الناشطة وأهراءاته المرفوعة الرأس فأثارت في عيوننا دمعاً وأسفاً على ما وصلت إليه حالنا وحال مرفئنا الجريح بعد أن كان المرفأ الأول على الساحل الشرقي للمتوسط. إحصاءات كثيرة رواها المرشد عن مرفأ اللاذقية لم يتبق منها في ذهننا إلا أن المسؤولين عرفوا كيف يحيّدوه عن النيترات وأخواته ويحفظوه من أي أذى ليصبح نقطة محورية في الاقتصاد السوري.

 

الريفييرا المترهلة…

 

الفنادق عديدة في هذه المنطقة السياحية الساحلية التي كان يفترض أن تكون قبلة السياحة في سوريا تجتذب إليها زواراً من الداخل والخارج. لكن وضع السياحة مترهل كما وضع الفنادق التي ما زالت على حالها تشهد على أيام عز كانت ولم يتم تجديدها لتواكب العصر. لا وجود لسيّاح أجانب والزوار السوريون عددهم قليل. فالمنطقة تدفع ثمن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها سوريا حيث الوضع يحاكي وضع لبنان. تقنين في الكهرباء وارتفاع في سعر المحروقات التي قفزت الى 4500 ليرة سورية في يوم واحد وانهيار لسعر العملة انتقلت معه قيمة الدولار من حوالى50 ليرة الى 4010 ليرات تقريباً في السوق السوداء يرافقه غلاء فاحش جعل الأسواق تنافس أسواق لبنان في الأسعار ومنع اللبنانيين من التسوق بسخاء كما اعتادوا أن يفعلوا في الأسواق السورية.

 

وحدها الصيدليات لا تزال تشهد إقبالاً قوياً من قبل الزوار اللبنانيين الذين يجدون فيها ما يعجزون عن الحصول عليه في لبنان. طوني رصف حقيبة ظهر كاملة بالأدوية المختلفة: «عندي ولدان يحتاجان الى بانادول وبروفينال وaugmentin وما شابه. لقد دفعت مئة دولار على شراء كل ما يمكن ان نحتاجه كعائلة من أدوية وحرصت على أن يكون تاريخ انتهاء صلاحيتها بعيداً».

 

السوريون في اللاذقية رغم الأزمة يعيشون حياتهم فالمقاهي مليئة بالروّاد وصالات الزفاف «مفولة» كما قيل لنا ومطربون من لبنان تملأ يافطاتهم الشوارع، حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل كانت الأرصفة تعجّ بالأراكيل والعائلات السهرانة تحت الأشجار.

 

كل من صادفناهم يسأل عن لبنان. سائق التاكسي أراد ان يعرف من أية منطقة نحن: من الأشرفية، المنصورية، بعبدا؟ فهو يعرف كل المناطق: «أمضيت في لبنان 25 سنة وأعرفه أكثر من سوريا!». آخر يحمّلنا سلاماً للبنان الذي أمضى فيه ثماني سنوات وترك فيه قطعة من قلبه. حين ندعوهم للقدوم الى لبنان يجيب أحدهم»يا ريت نحن هون محسوبين على النظام ما فينا نروح على لبنان».

 

الريفييرا السورية التي وعدنا بها لم ترقَ الى مصاف الحلم رغم حلاوة المشوار فربما حين ينجز الروس استثماراتهم الكبرى «تقبّ» المنطقة وتنافس شواطئها ومنتجعاتها الريفييرتين الفرنسية والإيطالية… هكذا يحلمون وهكذا أخبرونا وما نقلناه ليس إلا على ذمّة الراوي.