تصريحان لافتان خرجا من العراق خلال الأيام الماضية؛ الأول لرئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني يبّشر بالانتصار في سوريا٬ والذي سيفرح له الإيرانيون وأنصارهم في العراق ولبنان وسوريا واليمن. والتصريُح الآَخُر لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي٬ والذي يذكر أّن داعًشا ظهر في سوريا وليس في العراق. ويتساءُل عمن أمَّده بالقوة والإمكانات. ويزعم في الوقت ذاته أنه لا يقاتل في العراق غير العراقيين٬ متجاهلاً الأميركيين الذين يقاتلون مع غربيين آخرين على أرض العراق٬ ومتجاهلاً الإيرانيين الذين يقودون الحشد الشعبي٬ وقد قال قائد الحرس الثوري جعفري إّن إيران جّندت ودّربت 200 ألف «ثائر» في العراق وسوريا ولبنان واليمن لمقاتلة الإرهابيين والتكفيريين!
في الوقت نفسه جاء بايدن نائب الرئيس الأميركي إلى تركيا مستحًثا الحكومة هناك على القيام بجهٍد أكبر في قتال «داعش»٬ أو ستضطر الولايات المتحدة إلى إرسال قوات أرضية للقتال في سوريا. وستكون لذلك عواقب على العلاقات بين الأتراك و«الأطلسي». كذلك أبدى الأتراك تشككهم في السياسات العسكرية الأميركية بسوريا نتيجة الدعم المعلن لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في سوريا وفي تركيا٬ وهو مصَّنٌف من الولايات المتحدة باعتباره تنظيًما إرهابًيا. وفي الشهور الأخيرة صار هؤلاء ينّسقون مع الروس والإيرانيين بمقاتلة الثوار السوريين في شمال سوريا على مقربٍة من الحدود التركية. وإذا تقدم الأتراك لحماية حدودهم من «داعش» ومن حزب العمال فما الذي يضمن أن لا يتعرضوا للقصف من جانب الطيران الروسي؟ وحصل الأتراك على كلام من بايدن ضد حزب العمال الكردستاني٬ لكْن ليس في سوريا٬ بل في تركيا٬ وظلّت المسائل الأخرى كلها دون أي توافقات.
وشهدت الحرب في سوريا حديًثا من نوعية مشابهة من جانب وزير الخارجية الأميركي جون كيري في زيارته للرياض ولقائه بالمعارضة السورية. فقد أوضح المسؤول الأميركي أّن على هؤلاء الذهاب إلى المفاوضات دون شروط٬ ومن ضمن ذلك: السكوت على التدخل الروسي في تحديد وفد المعارضة إنقاًصا وزيادة٬ والسكوت على عدم تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن الأمور الإنسانية. والسكوت على تحديد دي مستورا لجدول الأعمال بالتشاور مع الروس والأميركيين. وقد علَّل كيري هذا التغيير في الموقف الأميركي لجهة تسليم الروس معظم الملّف٬ بأّن المفاوضات على المرحلة الانتقالية ستستمر طويلاً٬ ولا تستطيع الولايات المتحدة انتظار نتائجها٬ لأن أولويتها اليوم وغًدا مكافحة «داعش»٬ والروس موجودون على الأرض ويخدمون في قضية مكافحة الإرهاب الداعشي٬ وإن كانوا
يقفون إلى جانب نظام الأسد٬ ويرتكبون تجاُوزات تجاه المدنيين. وفي ظل هذه الظروف والأولويات فإّن المعارضة السورية ضعيفٌة الآن وستزداد ضعًفا مع تقدم النظام بمساعدة الروس والإيرانيين على الأرض. فالأفضل التفاوض اليوم بأي ثمن لكي يمكن الخروج بشيء ما٬ قبل أن ينتهي كل شيء لصالح النظام. وعندما قال المفاوضون السوريون لكيري بعد جدالاٍت طويلٍة إنهم لا يقبلون الحضور إلى جنيف بهذه الطريقة المذلّة٬ قال لهم كيري: إن لم يحضر الذين يوّجه إليهم دي مستورا الدعوة منكم٬ فسنقطع عنكم المساعدات التي نقدمها لكم على الأرض٬ ونكتفي بالدعم الإنساني للمدنيين!
ويوم الاثنين في 1 / 25 اجتمع مسؤولون أمنيون وسياسيون أوروبيون كبار في بروكسل وقرروا أنه بالنظر إلى المعلومات المتاحة فإّن داعًشا سيحاول تغيير تكتيكاته والقيام بهجماٍت في شتى أنحاء العالم. ولذا لا بد من تشديد الإجراءات (بما في ذلك تمديد أحكام الطوارئ في بعض البلدان)٬ إنما الأهم أنه لا بد من مكافحة «داعش» في ديارها الأصلية لقطع رأسها المفكر والمدّبر في سوريا أولاً٬ وفي العراق ثانًيا٬ وفي ليبيا ثالًثا.
هناك إذن اتجاه غربي عاٌّم يقوده الأميركيون والروس لصّب الجهد العسكري والأمني كلّه على مكافحة «داعش»٬ الذي يهدد أمن العالم الغربي. وتتراجع في ضوء هذا الوعي المتصاعد بالخطر الداعشي كل الاعتبارات الأخرى. ومن ذلك: المعارضة السورية المسلَّحة وغير المسلَّحة٬ وعضوية تركيا في حلف الأطلسي٬ وإمكان تقدم السيطرة الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان.
كيف ستكون الصورة في البلدان الثلاثة بعد عاٍم أو عامين٬ إْن استمر التهجير والقتل وتخريب العمران والسياسات الطائفية٬ تحت مظلة مكافحة «داعش»؟! لا يجيب كيري عن ذلك مباشرًة٬ بل يقول: أمن دول الخليج خٌّط أحمر٬ أما التساؤلات حول مصائر البلدان فقد تحدثتم أنتم كثيًرا مع الروس٬ وتحدثنا نحن ونتحدث مع الروس والإيرانيين. و«داعش» خطٌر عليكم مثلما هو خطٌر علينا٬ ولذلك يكون عليكم أن تفهموا الأولوية التي نعطيها له٬ بما في ذلك التعامل مع هاتين الجهتين )وليس التعاون!) ضد «داعش». ولا بد من الاعتراف أّن الروس والإيرانيين يستطيعون التأثير أكثر لأنهم موجودون على الأرض٬ بينما أنصار المعارضة (تركيا والسعودية وقطر) ليسوا موجودين. ولذا ينبغي أن نبقى مًعا لكي نصون مستقبل الناس في البلدان الثلاثة بقدر الإمكان!
هل هذا الموقف الأميركي جديد؟ لا٬ ليس جديًدا٬ فهو هو نفُسه منذ عام ٬2013 ففي ذلك العام أدرك الأميركيون أّن الإيرانيين والروس لن يسمحوا بسقوط نظام بشار الأسد. وكان تقدير الروس أنهم بالخبراء وبالأسلحة٬ وبالإسهام البشري الإيراني (مع الميليشيات التي أحضروها معهم) يمّكنون الأسد من الصمود بحيث يمكن التفاُوض مع خصومه بالمنطقة من موقٍع أفضل٬ يحفظ مصالح الطرفين في سوريا في المستقبل. لكّن النظام عاد فتهالك عام 2015 بسبب ظهور «داعش» واستيلائها على المناطق البترولية٬ ولأّن المسلَّحين الآخرين أقاموا تحالفات عسكرية وازنة في الشمال والجنوب تمكنت من الصمود عام 2014 رغم الاستنزاف الذي تعرضت له من «داعش» ومن النظام٬ ثم استعادت قوة الهجوم في الشمال والجنوب عام 2015. أما موقف الأميركيين فلم يتغير لأنهم على يقين أّن المعارضة السياسية والعسكرية لا تستطيع الحلول محَّل نظام الأسد. وأما الإيرانيون فتشاوروا مع الروس وضغطوا من أجل دعم النظام٬ أو لا تعود هناك فائدةٌ من الاستمرار في الرهان عليه.
… وتدخل الروس بهذه القوة الكاسحة. وبعد صمود قرابة ثلاثة أشهر٬ بدأ المسلَّحون السوريون بالتراجع على كل الجبهات. وترددت تركيا في التدخل أكثر رغم انزعاجها من الأكراد اكتفاًء بالضمانات الأميركية. وبعد إسقاط الطائرة الروسية ما عادت تجرؤ على التدخل. أما الأردنيون فأبلغوا المعارضة مسلَّحين وغير مسلحين قبل التدخل الروسي بشهرين أنهم ما عادوا يستطيعون المغامرة بدعم المعارضة.
هكذا عادت الآمال الإيرانية بالانتصار للتصاعد في العراق وسوريا. في العراق لأن التحالف الدولي سيقضي على «داعش»٬ وهم وميليشياتهم موجودون على الأرض منذ عام 2003. وفي سوريا لأن الروس سيقضون على المعارضة المسلَّحة. والتحالف والروس سيقضون على «داعش». وهم وميليشياتهم موجودون في كل مكان في لبنان وسوريا مع الأسد والروس وبعدهما!
هل يعمل الروس عند إيران٬ كما عمل عندها الأميركيون من قبل؟ إلى ذلك يذهب كثيرون من المعارضين السوريين٬ ومن السياسيين العرب!