Site icon IMLebanon

التسوية السورية المعلقة

لا موعد محدداً لجولة مفاوضات جديدة في جنيف٬ ومحادثات آستانة معلقة بدورها. وكل ما قيل من أن البلدان الضامنة لاتفاقية «مناطق خفض التوتر» الأربع٬ سيقدمون في الرابع من ­ يونيو (حزيران) الحالي٬ الخرائط النهائية للمناطق المشمولة بالخفض٬ لم يتحقق منه أي شيء٬ وحتى لا إشارات عن أي لقاء عسكري لهذه الأطراف٬ كما لم تتابع موسكو مسألة تأمين المشاركة العسكرية من أطراف مقبولة٬ تتولى الفصل عسكرياً بين هذه المناطق٬ وتلك التي يسيطر عليها النظام السوري٬ وأن تكون المشرفة على أمنها٬ بما في ذلك الأمن الاجتماعي المعيشي والصحي. كل التواريخ سقطت ولم يتذكرها أحد٬ حتى أن الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا المشارك في مؤتمر عن السلام تستضيفه النرويج٬ لم يجد غضاضة من القول٬ إن «العودة إلى محادثات جنيف تعتمد على ما سيتحقق في مناطق خفض التوتر».

الواقع أن المستجدات المتتالية في «سوريا المفيدة» أساساً٬ كما في المناطق التي يتم تحريرها من «داعش»٬ فرضت تعديلاً في جدول الأعمال الدولي بشأن التسوية في سوريا. فليس أمراً عرضياً أن تعلن «حميميم» قبل أيام أن 47 مدينة وبلدة في إدلب٬ البقعة السوداء بالذات٬ نفذت «مصالحات» وانضمت لاتفاقات خفض التوتر٬ وأن العدد الإجمالي ارتفع إلى 1619 مدينة وبلدة٬ وترافق ذلك وفق «حميميم» مع انضمام 219 مجموعة مسلحة للاتفاقات و«المصالحات» مع النظام٬ وكثير من هذه المجموعات التحق بالفيلق الخامس. وهذا الفيلق هو القوة الجديدة٬ تدريباً وتسليحاً وتمويلاً تقع تحت الإشراف المباشر للقيادة الروسية في سوريا٬ وتم إيجاده لإنهاء حالة من التشرذم الميليشيوي٬ التي كانت تتبع للحرس الثوري الإيراني في المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي.

هذه المتغيرات أملت إرجا ًء مؤقتاً لمحادثات آستانة٬ التي ستعود وتنعقد وتتأجل مرة بعد مرة٬ بانتظار استقرار الخرائط الأخيرة للنفوذ٬ وهي خرائط وضعت أمام التغيير الحتمي٬ منذ معركة حلب التي أنهت شكلاً من العسكرة المتأسلمة للثورة السورية٬ في حين أن كل ما بقي من مناطق تحت الإشراف المباشر للفصائل المسلحة٬ لا تتعدى كونها جيوباً منعزلة آيلة للسقوط. وكل استعراضات الفصائل فيها٬ وصداماتها وتوافقاتها٬ ليست بعيدة عن الأهداف العامة لفريق النظام السوري. ومنذ صفقة التغيير الديموغرافي الأكبر والأخطر في محيط دمشق٬ التي ُعرفت بصفقة «المدن الأربع»٬ وكان لحكام قطر بصمات تمويلية كبيرة فيها٬ عبر إرهابيي «فتح الشام» (جبهة النصرة)٬ وقضت بإحلال أسر من «الهزارة» (الشيعة الأفغان)٬ وشيعة من باكستان والعراق مكان أبناء البلد الأصليين٬ فإن كل ما يجري بات علنياً وبشكل مكشوف٬ والذروة أن تتولى ميليشيات حزب الله نقل جرحى تنظيم «جبهة النصرة» إلى مستشفيات البقاع وهم كانوا قد سقطوا مؤخراً في مواجهات القلمون الغربي التي اندلعت مع أطراف محسوبة على «داعش»٬ ويتردد أن هذا الترتيب تتمة لصفقة «المدن الأربع». ونفتح مزدوجين للإشارة إلى أن البصمات القطرية التمويلية لـ«جبهة النصرة» بارزة في إدلب معقل هذه الجبهة المتطرفة٬ وذلك بالتكافل والتضامن مع المخابرات التركية٬ ولا يستبعد أن يؤدي ذلك إلى الكارثة في الآتي من الأيام٬ ويص ُّب في خدمة أهداف النظام السوري وحلفائه.

وحقيقة الأمر أن الروس منذ حسموا معركة حلب٬ تيقنوا أن لا ح ّل عسكرياً في سوريا٬ وأن لا بديل عن التسوية السياسية٬ وهم أعلنوا تأييدهم لها ولم يتعهدوا يوماً بأن هاجسهم تسوية عادلة٬ بل أرادوا قبض ثمن تدخلهم٬ الذي ضاعف أعداد الضحايا وفاقم الدمار٬ لكنهم عجزوا عن ترجمة أهدافهم مكاسب ملموسة مع إدارة الرئيس أوباما التي اكتفت برفع الصوت أحياناً ضد بعض الممارسات الجائرة. واتسع الرهان مع مجيء الإدارة الجديدة والرئيس دونالد ترمب٬ لكن الملف المفتوح على خلفية مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية٬ أرجأ البحث الجدي٬ وتراجع الحديث عن الصفقة الكبرى بين البلدين٬ واتسعت الشكوك الأميركية بروسيا وتنامى العداء لها٬ وهذا ما يفسر أنه بعد مرور نحو ستة أشهر على تسلم الرئيس ترمب لم تعقد بعد مباحثات قمة بين واشنطن وموسكو.

كل ذلك ترك انعكاسات سلبية كبيرة٬ وكان لافتاً أن يعلن رياض حجاب٬ رئيس الهيئة العليا للمفاوضات٬ أن الوفد السوري إلى واشنطن لم يلمس أي رؤية أميركية لحل الأزمة السورية. واليوم بعد كل القراءات لضربة «الشعيرات»٬ وتحميل طهران المسؤولية عن انعدام الاستقرار في الإقليم٬ ومع الحرب على «داعش» حيث بدأت معركة استعادة الرقة٬ تزايد الاهتمام الأميركي بترسيخ الأمن على طول الحدود مع إسرائيل والأردن٬ وحتى معبر «التنف»٬ وأدخلت واشنطن نظام المدفعية الصاروخية التدميري هيمراس ­ Himrass ­ لكن كل هذا التحرك٬ لم يرتِق بعد إلى خطة تكسر أو تجوف مشروع الهلال الفارسي الزاحف٬ لإقامة ممر بري يربط طهران بالمتوسط! وهذا الأمر لو تقدم لوضع واشنطن في قلب التسوية للأزمة السورية٬ ولوضع المسألة السورية على طريق الحل الجدي٬ من هنا يصبح مفهوماً الربط الذي أعلنه الموفد الدولي دي ميستورا٬ بين موعد جديد لمحادثات جنيف٬ وانتظار ما سيتبلور من نتائج عن لقاء ترمب ­ بوتين على هامش قمة العشرين الشهر المقبل.

وحتى إشعار آخر٬ كل المباحثات بشأن سوريا تمارين بالنار٬ والبحث الحقيقي معلق٬ والأطراف تتسابق على الاستحواذ على الأرض والنفوذ٬ ويدفع الشعب السوري ثمناً غير مسبوق لأبشع حرب لم تب َق قوة إقليمية أو عالمية إلاّ وتدخلت فيها.