Site icon IMLebanon

ثوابت المجتمع السوري وحدود المتغيرات الجديدة

 

 

 

 

لا شيء يتقدم على الرهانات والتمنيات سوى الأسئلة بعد شهر واحد على سقوط نظام الأسد وإعلان سوريا الجديدة. والكل يتوقف أمام كثافة الاتصالات العربية والدولية غير العادية مع الحكم الجديد، وما يدور فيها وحولها من آراء ومواقف معلنة، ثم ينتظر وقتاً أطول للحكم على التجربة. فالكابوس المخيف الأثقل من سجن صيدنايا انتهى، لكن الحلم الجميل ينطبق عليه قول أرسطو عن الأمل بأنه “حلم مستيقظ” في واقع ملتبس. والسقوط جاء على شكل انهيار، حيث هرب الأسد وأركانه العسكريون والأمنيون والسياسيون، وبدا النظام الذي حكم بالعنف 54 سنة كأنه لم يكن. والإعلان عن سوريا الجديدة يحتاج إلى وقت طويل لقيام سوريا جديدة بالمعنى الذي يريده السوريون ويريده لهم العرب والعالم. لا بل إن الحكم الجديد بدا كمن فوجئ بالبلد التعددي المتنوع الذي وقع في يده، بحيث لم يجد ما يطبقه عليه وعلى شعبه سوى نموذج إدلب. إدارة بلا قوانين ولا إعلان دستوري من البداية قبل إنجاز دستور. جيش من تجمع ميليشيات. مناطق لها خصوصيات ولديها أسلحة. عسكر وأمنيون فقدوا وظائفهم في أخطر وضع اقتصادي ومالي. وحملات أمنية على الأنصار الذين تركهم النظام الساقط لقدرهم في رد الفعل. وحرية عمل عسكري لتركيا وإسرائيل على الأرض السورية.

 

 

 

أبو محمد الجولاني كان واضحاً وحاسماً في القول: “نحن ضد كل مؤسسات الدولة الحديثة من دستور مدني وانتخابات ديمقراطية وجيش بعقيدة وطنية”. والقائد العام أحمد الشرع الذي ترك الاسم المستعار واستعاد اسمه يوحي أن تحولاً مهماً طرأ على أفكاره، ويتحدث عن الدولة والدستور والانتخابات، ويستقبل ويودع الوفود العربية والدولية والوفود المحلية التي تبحث عن الاطمئنان إلى المستقبل. غير أن المشهد في سوريا يعكس ثلاث صور: صورة واضحة من خلال ما تطلبه الوفود الزائرة ويطالب به السوريون، وهو الحكومة الشاملة، ضمان التنوع وحماية الأقليات، ودستور نظام وطني ديمقراطي وانتخابات حرة. وصورة عمومية يقدمها أحمد الشرع لكل من يتحدث إليهم، عن سوريا التي ليست أفغانستان ولن تكون. وعن مؤتمر وطني لتحديد معالم المرحلة الانتقالية وعلاقات مع كل الدول، من دون دخول في التفاصيل. بحيث يمكن تفسير كل شعار حسب الحاجة. وصورة واقعية هي ممارسات المسؤولين الجدد الذين تسلموا مفاصل السلطة، وهم من الفصائل المسلحة التي لا تجيد سوى القتال والتمسك بالجهادية السلفية وكل أشكال الإسلام السياسي.

 

 

 

والسؤال هو إلى أي حد تبدو تحولات أحمد الشرع جذرية، والى أي درجة يلحق به أنصاره؟ والبعض يطرح، على الرغم من رهانه على سوريا الجديدة واطمئنانه إلى تطورها، سؤالاً قديماً من تراث الحركات المنضوية في تيارات الإسلام السياسي، من الإخوان المسلمين إلى “داعش”: هل نحن في مرحلة “التطمين” قبل “التمكين” أم في مرحلة الخيار الديمقراطي الشامل؟ وماذا لو كان مسار “التطمين” في المحادثات يلازم مسار “التمكين” على الأرض في الوقت نفسه؟ مهما يكن، فإن أحداً لا يستطيع اختصار سوريا. فلا سوريا الانقلابات العسكرية كانت تشبه سوريا. ولا”سوريا الأسد” كانت تشبه سوريا. ولا سوريا الإسلام السياسي تشبه سوريا المتنوعة. ولا حكم الإسلام السياسي القصير في مصر وتونس وليبيا والطويل في السودان، قاد إلى أقل من الفشل والكوارث.

 

 

 

ذلك أن في سوريا المتنوعة حقائق لا مجال لطمسها حتى بالقوة، ولا لتجاوزها من دون كلفة كبيرة في النهاية على من يقوم في ما سماه جان فرنسوا ريفيل “إغراء التوتاليتارية”. وعلى من يتصور أن نموذج حكم الأسد يمكن تكراره بشكل معكوس أن يتذكر، لا فقط ما أصاب النظام وحلّ بسوريا بل أيضاً ما كان ولا يزال من الثوابت برغم المتغيرات. فالأكثرية الساحقة من المواطنين السوريين مسلمون من أهل السنة والجماعة، لكن الحكم في سوريا لم يكن ولا مرة حكماً إسلامياً. وفي عز قوة الإخوان المسلمين أيام النظام الديمقراطي البرلماني في خمسينات القرن الماضي، لم يكن سهلاً على مرشدهم والأستاذ في كلية الحقوق الدكتور مصطفى السباعي النجاح في الانتخابات النيابية. لا بل إن رئيس البرلمان ثم الوزراء فارس الخوري تولى في إحدى المرات حقيبة وزارة الأوقاف.

 

 

 

والحكم الجديد يعرف أنه انتصر على نظام الأسد وليس على الشعب السوري. فلا مهرب له من الغطاء الدستوري، وإن كان هناك من يريد الغطاء الشرعي. ولا أحد يجهل أن ما تحتاج إليه سوريا من إعادة إعمار واستعادة الدور العربي والدولي وعودة النهوض الاقتصادي، يجعل الحكومة الشاملة التي يريدها السوريون ويطالب بها العرب والعالم قدر البلد. وها هي وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك تقول بصراحة بعد مقابلة الشرع: “لا يمكن أن تكون هناك بداية جيدة إلا إذا منح الوضع السوري الجديد جميع السوريين نساء ورجالاً، بغض النظر عن العرقية أو الدينية، مكاناً في العملية السياسية، ولن نقدم أموالاً للهياكل الإسلامية الجديدة”.

 

 

 

وبكلام آخر، فإن أمام سوريا الجديدة وقيادتها الكثير من الحوافز والجوائز التي تدفعها نحو ترتيب حكم يمثل التنوع السوري. والكل يأمل في ألا يصح على الحكم الجديد قول بول فاليري: “الثورة تنجز في يومين عمل مئة سنة، وتخسر في سنة إنجاز خمسة قرون”.