تدخل المأساة السورية عاماً جديداً ولا أفق للانفراج. القوى الإقليمية والعظمى تتصارع سياسياً على الغنائم مثلما اقتتل السوريون ويقتتلون على حطام المدن وجثث الأبرياء، وكل طرف يلقي المسؤولية على الآخر مقتنعاً بروايته رافضاً غيرها. ومثلما يغمض السوريون أعينهم ويصمون آذانهم عن رؤية الواقع وسماعه، كذلك يفعل حلفاؤهم من دول وميليشيات. هكذا سورية لعبة أهلها والآخرين، ويتصاعد منها ضباب وألغاز على رغم وضوح الوقائع في نظر المحايدين، وما أقلّهم وما أندرهم أمام مغريات وطن يوزع لحمه ودمه على العابرين.
ما أسهل نقل عينات من تناقض الروايات السورية، والأحدث هو خبر انقطاع المياه عن دمشق التي تضم حوالى 8 ملايين من سكان ونازحين. الخبر الصحيح تعزوه المعارضة إلى براميل النظام المتفجرة التي أسقطها على نبع الفيجة في وادي بردى، ويعزوه النظام إلى سكب المعارضين المسلحين مادة السولار في النبع، ما سبب قطع المياه لمعالجة الإمدادات. وفي الحالين يعيش الدمشقيون وضعاً مستحيلاً. قال صديق هناك إنه يغسل وجهه ويديه بقماشة مبتلة، وإنه لم يستحم منذ ثلاثة أيام وإن عبوة تتسع لليترين ارتفع سعرها خمسة أضعاف. أياً يكن المسؤول، فحرب المياه تبدو منتهى فظاعات الحرب الأهلية.
ومن نافل القول هنا إن النظام المتباهي بسيطرته على حلب الشرقية يتعجل تصفية المعارضة حول دمشق، بالمصالحات أو بالحرب، وفي هذا تندرج أزمة وادي بردى، حيث رفضت «جبهة النصرة»، أو أي من أسمائها، المصالحة، في حين يعلم الجميع أن سكان الوادي كانوا يتوجهون إلى دمشق ويعودون منها، في إطار تعايش بين المسلحين والنظام: ما بعد حلب يختلف عما قبلها، إنه هذه المرة عطش العاصمة السورية.
عام جديد والثورة السورية بلا أفق.
كيف بذهنية الستينات والسبعينات من القرن الماضي نتصدى فكرياً وعملياً لأوضاع معقدة في الألفية الثالثة؟ لقد تغيرت مفاهيم الأوطان والأنظمة الحاكمة والمعارضات والثورات، فيما نحن العرب نعالج أوضاعنا سياسياً وعسكرياً بذهنية القرون الوسطى، فالمسيطرون على الأرض في سورية والعراق وليبيا ناطقون باسم الإسلام كما يفهمونه وكما يترجمونه للناس، وهم -معممين وغير معممين- عابرون للأوطان، والأهم أنهم يرون في الثورات مجرد مكان عبور لأهدافهم العالمية. هل يجرؤ معارض، في سورية تحديداً، على الإقامة في المناطق التي تحررت من النظام؟ وإذا جرؤ فهل يأمن من محاكمة ميدانية «شرعية» قد تقوده إلى الإعدام؟
ثمة تغير في مآلات الأنظمة والثورات، وإذا كان بشار الأسد محكوماً بالسقوط في نظر أصدقائه قبل أعدائه، فإن تركيز الخطاب المعارض على سقوطه يعتبر ملهاة عن الموضوع الذي يتفاداه قادة الثورة، وهو بالتحديد طبيعة الثورات في أيامنا الحاضرة، وهل هي شعار ثابت وإيمان لا يتزحزح مثلما هو الدين؟ الواقع أن الثوريين العرب يحتاجون، خصوصاً في سورية، إلى شيء من البراغماتية التي تحكمها سلامة الناس الذين انطلقت الثورة من أجلهم. هناك خشبية في خطاب النظام، وهذا متوقع، لكنّ المفاجئ هو استمرار الكلام الخشبي على ألسنة قادة ثورة يُفترض أنهم مثقفون ومجرّبون. يحتاج الأمر إلى إعادة تفحص هؤلاء وبيان مدى صلاحيتهم لقيادة شعب يتصدون لها باعتداد غريب.
أين شباب ثورة سورية عام 2011 وحيويتهم وتفاؤلهم، فيما السياسي في سورية صار عسكرياً والعسكري استحال سياسياً، وتسببا معاً في فشل السياسة والعسكرة ليتحول الحراك واقعياً إلى جريمة وطنية، لكنها جريمة في آخر المطاف، ولا يخجل مرتكبوها؟
نقد الثورة لا يعني بالضرورة الولاء للنظام. هذا «التابو» أسقط الشعب السوري في الشعار الذي لا يغني عن بيت واجتماع أهلي في الوطن.