كُتب للبنان من قلة رجال دولة فيه أن يخضع لوصاية سورية دامت 30 عاماً، فكانت هي التي تعيّن الرؤساء وتشكل الحكومات. وها هو يخضع اليوم لهيمنة إيرانية أو وصاية مقنّعة تعطّل انتخاب الرؤساء وتشلّ عمل المؤسسات. فلو أن لبنان كان يعيش اليوم زمن القادة الكبار ما كان يواجه ما يواجهه من أزمات ولا سيما أزمة انتخابات رئاسية بلغ عمرها 20 شهراً لأن نواباً أعطوا لأنفسهم حق التغيّب عن جلسات الانتخاب حتى من دون عذر مشروع، وهو ما لم يفعلوه من قبل وإلا لما كان كميل شمعون انتخب رئيساً للجمهورية لأنه كان في استطاعة الأكثرية النيابية التي كانت موالية للرئيس الشيخ بشارة الخوري تعطيل انتخابه بالتغيّب عن الجلسة، ولما كان اللواء فؤاد شهاب انتخب رئيساً لو لم يطلب الرئيس شمعون من نواب كتلته حضور الجلسة وانتخاب شهاب خصمه السياسي، ولما كان انتخب سليمان فرنجيه رئيساً للجمهورية لو أن أركان “الحلف الثلاثي” (شمعون، الجميل، اده) قرروا مقاطعة الجلسة، ولما كانت الانتخابات الرئاسية جرت لو أن المرشح الياس سركيس والمرشح الآخر المنافس له سليمان فرنجيه اشترطا لحضور الجلسة التأكد من فوز احدهما قبل الانتخاب، خصوصاً أن التنافس بينهما كان على صوت واحد. إن ما يحصل اليوم في الانتخابات الرئاسية لم يحصل مثله حتى في دول افريقية، إذ هل يعقل أن حزباً يعلن تأييد مرشح للرئاسة ولا يحضر لا المرشح ولا مؤيدوه الجلسة الانتخابية، أو يشترط حزب لحضور الجلسة التأكد من فوز مرشحه قبل الانتخاب وإلا تغيّب نوابه عنها لتعطيل نصابها؟
لقد أيّد الرئيس سعد الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجيه للرئاسة، وأيّد الدكتور سمير جعجع العماد ميشال عون وكلاهما من 8 آذار وخطه السياسي توصلاً الى كسر حلقة التعطيل. فما كان من الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله سوى القول إنه يؤيّد كلاً منهما لكنه لن يحضر جلسة الانتخاب إلا إذا صار اتفاق على انتخاب احدهما، أي أنه لا يريد الانتخاب بل التعيين خلافاً لأحكام الدستور وما تقضي به الديموقراطية. واذا كان هذا هو موقف السيد نصرالله فهل يعقل أن يكون موقف عون وفرنجيه مماثلاً لموقفه فيغيبان مع نوابهما عن جلسة الانتخاب وهما مرشحان؟ وهل لدى أي منهما الجرأة على مخالفة موقف نصرالله وحضور الجلسة وهو الأمر الطبيعي، أما عدم الحضور فهو أمر غير طبيعي ومستغرب. واذا كان بعض القادة في لبنان يرضخون لإرادة خارج، فإن قادة الأمس لم يكونوا كذلك بدليل أنهم فضّلوا الفوضى على انتخاب النائب مخايل ضاهر من دون سواه رئيساً للجمهورية بقرار أميركي، وكأن أميركا لم تكن تريد انتخاب رئيس للبنان بل تريد له الفوضى بالطريقة الاستفزازية التي قدمت بها ترشيح ضاهر، مع أنه كان في استطاعتها أن تبقي الباب مفتوحاً لكل مرشح منافس له، وان توعز عند الانتخاب الى من تمون عليهم لينتخبوا ضاهر كي يتم انتخابه تطبيقاً للدستور وللنظام الديموقراطي. وعندما قررت أميركا بالاتفاق مع الرئيس جمال عبد الناصر انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية من دون منافس، تصدى العميد ريمون اده لقرارها وأعلن نفسه مرشحاً منافساً للواء شهاب مع علمه أنه لن ينتصر عليه، بل أراد أن تنتصر الديموقراطية في لبنان وان يحترم دستور البلاد، ولا يُقال إن اللواء شهاب فاز بالرئاسة في ظل الأسطول الأميركي السادس المرابط عند شاطئ بيروت.
أما اليوم فكيف يتعامل بعض القادة في لبنان مع خارج يتدخل في شؤونه الداخلية على المكشوف مستفيداً من الغش في زمن بائس ورديء، وفي زمن قادة تافهين، حتى اذا قال الخارج لهم اذهبوا وانتخبوا فلاناً رئيساً للجمهورية يذهبون طائعين صاغرين… ولو أن الخارج يريد انتخاب رئيس للجمهورية لكان طلب حضور جلسة الانتخاب وأوعز الى من يمون عليهم بانتخاب هذا المرشح أو ذاك، ولما كان يشترط للحضور الاتفاق قبل الانتخاب على من يريده الخارج رئيساً. ولو أن الخارج يريد انتخاب رئيس للبنان لكانت جلسة الانتخاب عقدت بنصاب كامل وحصل تنافس بين فرنجيه وعون، فمن ينال منهما أصوات الأكثرية النيابية المطلوبة أعلن فوزه، أو انسحب أحدهما للآخر في ضوء نتائج التصويت في الدورة الأولى للاقتراع لا أن يظل الجدل حول من منهما الأقوى وفقاً لحسابات لا يجوز الركون إليها، أو أن يفعلا ما فعله الزعيم الزغرتاوي الكبير حميد فرنجيه عندما انسحب لمنافسه كميل شمعون عندما قرر نواب طرابلس تأييد شمعون كونه “فتى العروبة الأغر”.
الواقع أنه لا يزال أمام المرشحين عون وفرنجيه فرصة الرد على تدخل أي خارج له مصلحة في تعطيل الانتخابات الرئاسية لكي يقبض ثمن تكبير حجم نفوذه وحماية مصالحه في المنطقة، فيقرران حضور جلسة الانتخاب إما بالاتفاق على انسحاب أحدهما للآخر، أو يتم هذا الانسحاب في ضوء نتائج التصويت بحيث ينسحب من نال أصواتاً أقل لمن نال أصواتاً أكثر، وإلا فإنهما يكونان مسؤولين عن ترك الخارج يتلاعب بمصير الوطن وبمستقبل ابنائه وليظل الفاسد لا يحاسب لا في مجلس نواب معطل، ولا أمام القضاء الذي أبقوه غير مستقل ليظل خاضعاً لتدخل السياسة فيه.