كلّ هذا الجدل الدائر على الساحة السياسية اللبنانية لا معنى له سوى اللهو في الوقت الضائع. تسجيلُ المواقف، رفعُ السقوف وإظهارُ المرونة، أو حتى تصنّع الليونة، كلّ ذلك لا تأثير حقيقياً له.
حوار عون – جعجع سيبقى يراوح مكانه في انتظار التطورات الاقليمية الكبرى، والحكومة تستمرّ في خداع نفسها من خلال إيهام الناس بأنها تقود البلاد، ولكنها تستمرّ، ذلك أنّ السقف المرسوم للبنان حالياً هو المراوحة وعدم التصادم تجنّباً للتعطيل.
لكنّ الحوار السنّي – الشيعي الدائر من خلال تيار “المستقبل” و”حزب الله” له اهداف اضافية تحاكي التطورات الكبرى المرتقَبة في الجوار: امتصاص كلّ الاورام الموجودة والعمل على إحاطة الساحة اللبنانية جيداً لضمان اجتيازها العاصفة الآتية من الساحة السورية وبأقلّ أضرار واضطرابات ممكنة. والنقطة المحوَرية لكلّ هذه الاستحقاقات تبقى في الاتفاق النووي الايراني.
فمع انطلاق جلسات التفاوض بين الاميركيين والايرانيين، حاول الوفد الاميركي مراراً وبطرق مختلفة فتح ملفات المنطقة الى جانب الملف النووي والتي تشكل ايران طرفاً في النزاع الدائر فيها. لكنّ الفريق الايراني المفاوض كان يقطع الطريق فوراً إنفاذاً لتعليمات مرشد الثورة آية الله السيد علي خامنئي.
الفريق الديبلوماسي الاميركي المفاوض كان يدرك أنّ خلفية هذا الرفض لا تستند الى التعفّف او الزهد، لا بل الى حسابات سياسية وميدانية، والاستراتيجية التي تعتمدها طهران للوصول الى تركيز نفوذها على كلّ ما اصطلح على تسميته الهلال الشيعي.
ذلك أنّ العراق خضع منذ انسحاب القوات الاميركية للنفوذ الايراني المطلق باستثناء مرحلة استيلاء “داعش” على الموصل، وهي فترة على قاب قوسين من الزوال. وفي سوريا نجحت ايران أولاً في مسعاها لمنع إسقاط النظام السوري، وثانياً في العمل على استعادة زمام المبادرة الميدانية تمهيداً لتوجيه ضربة قاضية للمعارضة من خلال معركة محاربة الارهاب.
وفي لبنان لم تنجح معركةُ تحجيم “حزب الله”، لا بل زادته قوة وحضوراً وساعده في ذلك فشل الحرب التي شنّتها اسرائيل عليه عام 2006. وفي الخليج فإنّ الساحات الشيعية بقيت حاضرة في البحرين والكويت والسعودية، أما في اليمن فكان الحوثيون يشكلون القوة الصاعدة القادرة على الإمساك بشرايين السلطة وهو ما حصل لاحقاً.
وبالتالي فلماذا تدخل طهران في مفاوضات مع واشنطن حول نفوذ اقليمي هي حقّقته، وكان يُنقل عن ديبلوماسيين ايرانيين قولهم على الدوام: ما الفائدة من فتح مفاوضات مع واشنطن هدفها اعترافها بحقيقة حاصلة على الارض؟ لذلك نَأت طهران بنفسها عن الملفات الاقليمية وحصرت المفاوضات في الشأن النووي.
لكنّ الحقيقة هي أنّ ايران التي تُقرّ بأنها لم تتوصل بعد الى تكريس حسم كامل، خصوصاً في سوريا، تسعى لتأجيل توقيع الاتفاق النووي الى نهاية حزيران المقبل أملاً في تحقيق انجاز ميداني حاسم على الساحة السورية ليصبح أمراً واقعاً بعد ذلك، ولأنها وضعت لنفسها حدّاً زمنياً مرتبطاً بحسابات الرئاسة الاميركية ويتحمّل تأجيل التوقيع حتى الصيف المقبل من دون تعريضه للخطر، فإنها اختارت تحسين شروطها امام الرئيس الاميركي باراك اوباما المتحرّق لهذا الانجاز التاريخي وتمسّكت بمبدأ إحجامها عن التوقيع إلّا بعد إزالة كلّ العقوبات عنها، وهو ما أمّن الذريعة المطلوبة لتأجيل التوقيع بضعة اشهر بلا ضرب الاتفاق الذي أصبح منجَزاً وفق كلّ بنوده، وهو ما سيمنح ايران الوقت الكافي لانجاز حملة الامساك بالعراق مجدداً من خلال ضرب “داعش”، والأهم توجيه ضربة عسكرية كبرى في سوريا تقلب موازين القوى نهائياً وتُستثمر لاحقاً في لبنان.
منذ نحو الشهر، تحدّث الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله عن معارك ما بعد ذوبان الثلوج. وقبلها بأيام كان قد استقبل الجنرال الايراني قاسم سليماني والذي يقود بنفسه معارك العراق.
ومنذ ذلك الحين والتحضيرات الميدانية قائمة على قدم وساق وتُسجّل الدوائر الغربية المتابعة وصول عشرات الألوف من المقاتلين الشيعة الى سوريا وقد توزعوا على ثلاث جبهات رئيسة: الاولى قرب الحدود اللبنانية في جبال القلمون والزبداني، والثانية قرب الحدود الاردنية، والثالثة قرب الحدود الاسرائيلة لضمان ردع اسرائيل عن أيّ تدخل لحظة اشتعال المعارك حيث الفوضى تكون الغالبة.
في تلك المناطق الجنوبية لسوريا كانت المعارك الاخيرة قد نجحت في تقطيع مناطق “النصرة” الى ثلاث ما يجعلها قابلة للسقوط عسكرياً بسرعة اكبر مع بدء الحملة قريباً.
في المقابل لا تبدو الصورة هادئة. فالمِحوَر المناوئ لإيران يستعدّ أيضاً ولكن على طريقة المباغتة، ولإدراكه أنّ حسم المعركة في سوريا سيفتي بتكريسٍ نهائي للهلال الشيعي، وهذا بالتحديد ما أملى على السعودية التقارب مع قطر، خصوصاً تركيا صاحبة التأثير الكبير في الساحة السورية، وليس سراً أنّ أعداداً كبيرة من المقاتلين دخلوا ايضاً الى سوريا عبر البوابة التركية أخيراً.
لبنان ينتظر انفجارَ البركان السوري ويتحسّب كلُّ فريق للنتائج. ويُقال إنّ “حزب الله”، وفي حال النجاح في تحقيق الانتصارات في سوريا، سيحاول استثمارَ ذلك في لبنان، إن من خلال وصول رئيس محسوب عليه، او ربما بدفع الامور في اتجاه تصعيد الازمة وصولاً الى نظام سياسي جديد قد تكون “المثالثة” أحد اشكاله.
فيما يسعى المحور السعودي – التركي الى احتواء الهجوم المتوقع، وبالتالي توجيه ضربة قاسية للطموح الايراني من خلال قطع الطريق على الهلال الشيعي عبر الساحة السورية ومن ثمّ استعادة التوازن في لبنان من خلال رئاسة الجمهورية. في كلّ الحالات الربيع سيكون حارّاً .